بغداد- واع
دعا الأمين العام لحزب الدعوة الإسلامية نوري المالكي في كلمة له اليوم الخميس بذكرى أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام)، الى استثمار الزيارة الأربعينية في تعميق مظاهر التعاون والتكافل الإجتماعي، والوحدة الوطنية، والتسامح الديني والمذهبي، ونبذ مظاهر الفساد والإنحراف والظلم والفشل والإهمال والتقاعس على مستوى الفرد والمجتمع والدولة، لتكون الأفكار والشعائر والممارسات التي تتخللها، أكثر انسجاماَ مع قدسية صاحبها وعظمة مبادئه العقدية العبادية السياسية، ونهضته الإسلامية الإنسانية.
وفي ما يلي نص الكلمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
الحمد لله على نعمة الإنتماء لنهضة سيد الشهداء، والصلاة السلام على رسوله العظيم، وعلى آل الهدي والعصمة
السلام عليك يا سيدي يا إمام الثوار والشهداء والأحرار في ذكرى أربعينية استشهادك
السلام عليك يا قائد الإصلاح في أمة جدك على مدى الأجيال
و السلام على الأمة التي تحيي ذكرى نهضتك في كل يوم وكل أرض
السلام على العراق وأهله وأرضه وسمائه..عراق الإرادة والصمود والعطاء والخير، وهو يتصدر العالم في كل عام بإحياء ذكرى النهضة الحسينية منذ ١٣٤٠ عاماً وحتى الآن، وسيبقى ـ بإذن الله ـ محوراً لإحيائها حتى يرث المستضعفون الأرض.
نعيش في هذه الأيام ذكرى أربعينية استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، وفيها تستعيد الأمة مبادىء نهضته ومضامينها، وهي النهضة الفيصل التي تتبين الأمة من خلالها الخط الأصيل، وتعي حقيقة الإنحراف والظلم والعدوان الذي تعرض له مسار دين الله، فكانت هذه النهضة الكبرى مصداقاً للوسيلة التي يحفظ بها الله (تعالى) دينه (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)).
إن المنعطفات الإصلاحية التغييرية التي حصلت في إطار مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، إنما هي جزء من النهضة الحسينية أو امتداد لها. و إذا كان يوم الحسين يذكرنا بأيام الله الخالدة، فإن إحياء ذكرى اربعينيته هو امتداد موضوعي لهذا اليوم العظيم.
لذلك، لم تتوقف مؤسسات الإنحراف والفساد والظلم يوماً عن محاولات القضاء على امتدادات النهضة الحسينية ومبادئها ومظاهرها، كونها عنوان الإستقامة والصلاح والعدل والحق والخير. ومن أهم مظاهر النهضة الحسينية التي حاربتها مؤسسات الظلم، الزيارات الهادفة التي يقوم بها أبناء أمة الحسين الى مرقد أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، والذي يمثل رمزية نهضته.
فكانت سلطات الظلم والجور تعمل بكل الوسائل للقضاء على هذه الزيارات، حتى بلغ الأمر أن تطالب السلطات الظالمة بقطع يد الزائر مقابل أداء الزيارة، قبل أن يتحول ثمن الزيارة الى قتل الزوار ومحاولة إبادتهم. وهو المبدأ الذي استمرت دولة البعث البائدة على الإلتزام به والمبالغة في تنفيذه.
وقد سطّرت أمة الحسين في العراق أعظم ملاحم التحدي أمام جبروت الطغاة البعثيين في إمعانهم بضرب الزيارة ومحوها من ذاكرة الشعب العراقي الأبي. وكان من أهم هذه الملاحم انتفاضة صفر الخالدة في العام ١٩٧٧، التي رفعت راية ((يد الله فوق أيديهم))، تعبيراً عن تمسك الإنتفاضة بحبل الله (تعالى). ولم تدّخر دولة البعث أية وسيلة لقمع الإنتفاضة ومنع الزوار من التحرك من النجف الأشرف صوب مرقد النور في كربلاء، بدءاً بالتشويه الدعائي، والتحريض الطائفي، وقطع الطرق، وانتهاءً باستخدام فرق المشاة والدبابات والطائرات المقاتلة. ثم أقدمت على اعتقال أكثر من ثلاثين ألف زائر، و حكمت على كثير منهم بالسجن المؤبد، كما أعدمت تسعة منهم، وهم من خيرة شباب العراق، كالشهيد السيد وهاب الطالقاني والشهيد جاسم الإيرواني والشهيد محمد البلاغي. ولا ذنب لهم إلّا مقاومة قرار حضر زيارة مرقد الإمام الحسين (عليه السلام).
وكان من نعم الله (تعالى) على أمة الحسين وشعب العراق، أن عاد إحياء ذكرى أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) بعد العام ٢٠٠٣، بشكل غير مسبوق، وهو دليل صارخ على أن أمة الظلم و الجور لن تستطيع القضاء على مظاهر الإحياء الحسيني، مهما بلغ جبروتها، ومهما طال الزمن، (( فكِدْ كيدَك، واسْعَ سعيَك، وناصِبْ جهدك، فوَاللهِ لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تُميت وحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تَرحضُ عنك عارها، وهل رأيُك إلاّ فَنَد، وأيّامك إلاّ عَدَد، وجمعك إلاّ بَدَد.. يوم ينادي المنادي: ألاَ لَعنةُ اللهِ علَى الظالمين))، وهو ما صرخت به سيدة العز والصمود زينب بنت علي (عليهما السلام) بوجه الطاغية.
إن ملحمة الزيارة الأربعينية في العراق، تشرق على الأمة الإسلامية والعالم ـ في كل سنة ـ بنورها الذي ينطوي على أرقى المضامين الإنسانية والإجتماعية والأخلاقية والدينية والمذهبية والوطنية.
ففي البعد الإنساني تتجلى صور الإجماع على الحسين رمزاً إنسانياً يجمع تحت خيمته كل المنادين بمبادئ التحرر والعدالة والخير و حقوق الإنسان، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والفكرية والقومية والوطنية والسياسية.
وفي البعد الإجتماعي تبرز مضامين التكافل والبذل والعطاء بلا حدود، وبصور لانظير لها تاريخياً وجغرافياً، إذ يبذل العراقيون كل ما في وسعهم من أجل خدمة ملايين الزوار من أبناء وطنهم ومن الوافدين، ويقيمون آلاف المواكب والهيئات على طول مئات الكيلومترات، لاستقبال المشاة والزوار، وإسكانهم وإطعامهم. ونرى من خلال كل ألوان الخدمة، مظاهر لا نظير لها في التعاون والتكافل والتضامن والتواضع والحب بين الناس، دون تمييز بين عرق ولون وجنسية ومستوى اجتماعي وطبقي.
وفي البعد الديني، تبرز مظاهر الإلتزام العقدي والعبادي والشعائري والأخلاقي، بالشكل الذي يؤكد تمسك الزوار بالإلزامات الدينية للنهضة الحسينية، وهو ما يدعمه تواجد مئات علماء الدين الذين يمارسون عملية التوعية والإرشاد الديني.
وفي البعد الوطني، تتجلى عظمة الشعب العراقي وامتلاكه ناصية الإرادة والعزيمة على إنجاح الزيارة، بالرغم من ثقل المهمة وحجمها. كما تتجلى القدرات الكامنة للدولة وأجهزتها الخدمية والأمنية في إدارة الزيارة. الى جانب تجلي أسمى مظاهر الوحدة الوطنية، عبر مشاركة الشيعة والسنة، المسلمين والمسيحيين والصابئة، العرب والكرد والفيليين والشبك والتركمان، حتى باتت الزيارة الأربعينية مناسبة سنوية للتعبير عن وحدة الشعب العراقي بكل أديانه وطوائفه وقومياته وانتماءاته الفكرية والسياسية.
هذه الأبعاد المهمة، تستدعي مزيداً من التفكير و التخطيط لاستثمار الزيارة الأربعينية، من الدولة والمؤسسات الدينية والإجتماعية وعموم فئات الشعب، لتعميق مظاهرها السامية وتعميمها، وفي مقدمتها مظاهر التعاون والتكافل الإجتماعي، والوحدة الوطنية، والتسامح الديني والمذهبي، ومكارم الأخلاق، والإلتزام القيمي والديني، والتلاحم الإسلامي، ونبذ مظاهر الفساد والإنحراف والظلم والفشل والإهمال والتقاعس على مستوى الفرد والمجتمع والدولة، وأيضاَ لتكون الأفكار والشعائر والممارسات التي تتخللها، أكثر انسجاماَ مع قدسية صاحبها وعظمة مبادئه العقدية العبادية السياسية، ونهضته الإسلامية الإنسانية.
تقبل الله منكم يا زوار الأربعينية الكرام وخدامكم العظام، صالح الأعمال والطاعات، وأنتم تذكِّرون العالم بأيام الله الخالدة، وبلّغكم ثواب زيارة سيد الشهداء، وحشرنا وإياكم مع شهداء النهضة الحسينية. والسلام على الحسين وأمته ورحمة الله وبركاته
نوري المالكي
الأمين العام لحزب الدعوة الإسلامية
صفر ١٤٤١ هـ/ تشرين الأول ٢٠١٩م