ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
مع كل إطلالة لشهر محرم الحرام يسألنا كثيرون: ماهو سر وقوفنا بين يدي فاجعة الحسين (ع) عند كل واقعة أو موقف أو مأزق ؟! ..ولماذا احتفظت (مأساة الطف) بحرارتها في القلوب ولصيقةً في الضمائر, رغم انقضاء اربعة عشر قرناً من الزمان ؟! ... وما درى السائلون اًن نهضته (ع) لم تكن ظاهرة انفعالية لفورة عابرة.... بل كانت حركةً تصحيحية للعودة بالاسلام الى نهجه المحمدي ونسقه الانساني ومعادلته القرآنية بعدما عبثت بمقدراته (الطغمة الاموية الغاشمة) تلك التي صيًّرت الدين ظهراً يركب, والمجتمع ضرعاً يُحلب ... ثم اًنها صيحةٌ مجلجلة لاجتثاث البدع ودغل النفوس ووثينة الأفكار, والأخذ بناصية البرايا الى حيث المحجة البيضاء والشرعة السمحاء... ألم نسمعه يقول لأصحابه: (اَلا ترون الى الحق لا يُعمل به والىَ الباطل لايُتناهى عنه) وقولهُ حينما أطلَت الجاهلية من جديد وترجم الباغون شعارهم السفياني (تلاقفوها) الى دستور للحياة: (لم أخرج أشِراً ولا بَطِراً ولا ظالماً ولا مُفسِداً بل لطلب الإصلاح في أمة جدي). وهو المُردد دوماً:
( إن كان دينُ محمِد لم يستقم
إلاَ بقتلي فيا سيوفُ خذيني)
وهكذا افتدى (ع) بدمه الزاكي ومهج الصفوة المنتجبة من أهل بيته وأصحابه دينَ جده الأعظم من الزيغ والانحراف صادعاً بتكليفه الشرعي, ذاهبا الى النهاية الفاصلة, ليحسم أمراً لم يُك عنه من محيص .... ما أبطأه عن مقصده هذا طمعٌ في سلطان, أو وجل من حتف. مُتنبئاً بما سيحصل لقاتليه مصوراً لأعيِنهم أي منقلبٍ ينقلبون .. وها هُم اليوم قد اآبوا كأيةِ قمامة منسية في مزبلة التاريخ, فيما أبو الاحرار تتقاطر على مثواه الطاهر كل يوم الملايين من كل اصقاع الأرض تجديداً لبيعته, وإلتماساً لبركته, واستلهاماً لنهضته كمَا ندبة الشعراء من كل جنس ودين, بأرق ما إنطوى عليه الوجدان الانساني, وكم من فلاسفة العالم وقادته ومُفكريه من غير المسلمين استوقفتهم فضائل سيرته (ع) فانحنوا لها إجلالاً وعبروا عن خلجاتِهم بأبلغ الكلمات, وأدل دليل على البعد الإنساني لثورته (ع) واستيعابها لمطالب الرعية على اختلاف انتماءاتهم, أن انخرطَ في معسكره مسيحيون جادوا بأرواحهم لنصرته لايمانهم الراسخ بقضيته العادلة كـ (وهب) و (أمه) و(جون).
ودعونا- اليوم- نتأمل: كم من شفة لهجت بذكر الحسين وأخرى لعنت دولة الظالمين.. ذاك لأنه (ع) لم يرتضِ الخنوع للظلم والاستسلام للانحراف, ولا النكوص عن المبادئ المحمدية الَسامية. نعم... لقد مشى (ع) والبررة من ولده وصحبه من كل رأسٍ ما انحنى إلاَ لسجدة ولسان لم يرسل إلا لهدى ومعروف ... ليحيي إسلاماً كاد اًن يُهدر, وخلاصاً أوشك اًن يُخطف, وكرامةً وقد أزفت اًن ت
ُداس.
واليوم, ورغم انجلاء الحقيقة ووضوح معالم أبعاد تلك الجريمة النكراء.. ينبري أحفاد أولئك القتلة الأوغاد مسخرين أموالهم وماكناتِهم الإعلامية للتعتيم على نهضة الحسين وإفراغها من مضامينها الرسالية مقتفينَ اثر اجدادهم الامويين والايوبيين ممن جعلوا من (عاشوراء) عيداً بهيجاً تدق فيه الطبول والمزامير وترفع الزينة وتوزع الحلوى, مدعين زوراً أنه عيد خروج النبي (يونس) من بطنِ الحوت وما شاكله من مُدعيات
باطلة.
أما نحن – الموالين للحسين – ففينا من انخرط مع الجموع الحسينية المليونية لمواجهة خوارج العصر (الدواعش) ممن سطروا أروع الملاحم, وبذلوا أسخى الدماء رافعين شعار إمامهم أبي الأحرار: (هيهات منا الذلة) مُقوضين بعونه تعالى, وبهديهِ (ع) دولة داعش الخرافية, تلك التي أُريد لها تدمير جميع العتبات المقدسة لأهل البيت (ع) واجتثاثُ مورثهم العقائدي والفكري والتسامحي من الوجود... ولولا بطولات أولئك الغيارى وتضحياتٌهم, لرفرفت رايات التكفيريين في عواصم دول كُثر, إذ من غير الشُحنات الحسينية الروحية التي دبت في عروق أولئك النشامى لأمتد الطوفان التكفيري الى سائر بِقاع الارض. وفينا كذلك مَن فهم إمامه على غير ما أراد هو ان يفهمه.. فهموه دموعاً تُذرف, وآهات تُصعد, وهامات تُدمى, ومصالح تُعطل, فيما كان يريدهم اًن يفهموه... زخماً يزلزل الطواغيت وهمماً تقيم الحق وتدحض الباطل وتمحق الظلم وتتصدى للفساد وتنشد الإصلاح وتعلي الصروح وتوحد الصفوف وترسم البهجة على وجوه البؤساء.
لقد آن الاوان ان تستعيد الأمة وعيها وتتلمس دورها المرتجى وتستقي دروسها من مناهل الحسين الحقيقية لاسيما وقد احتوشتنا من كل جانب تحدياتٌ مصيرية جمَة. ولن نكونَ حسينيين عقيديين إن لم ننسلخ من أنانيتنا وازدواجيتنا ونغلب مصلحة البلاد والعباد على مصالحنا الشخصية وإذا لم نغادر دوائرنا الضيقة ونمضي صوب (الدائرة الانسانية الأرحب) حيث ما اوصانا به (الحسين) من إشاعة المحبة والمساواة والعدالة والتسامح والعيش المشترك بعيداً عن المظاهر البراقة والشعارات الجوفاء والتعصب الاعمى. وماعسانا إلا أن نقول لإمامنا الخالد: يا ليتنا كنا معكَ سيديَ عند فلوات الطفوف ووسط تزاحم الرماح وانثيال السيوف ومصارع الأقمار, لنفوز فوزاً عظِيمَا.
حبيب محمد هادي الصدر
سفير جمهورية العراق لدى مملكة الدنمارك