لدينا بابلون
نقرأ في آداب شعوب ليست على صلة بالعراق وبحضارة بابل، وجغرافيته، ولكنّها تفتخر أن لديها ثقافة بابلون وآشور، وتعد ذلك جزءا من هويتها، وتباهي العالم بها كروسيا القصيرية مثلا، عندما تقول لدينا بابلون، ولا أحد بمستطاعه أن يمحو عنا قدسية روسيا. ماذا تعني بابلون غير أن تكون تلك الجذوة الإنسانية التي ارتبطت جغرافيا بالعراق، وفكريا بفلسفة الأديان، هذه الثيمة الكونية واحدة من تحديدات هوية الكثير من بلدان العالم، وما الأديان الرئيسية إلّا نتيجة لهذا الترابط، ولو التفت المعنيون بالحضارة الرافدينية، لهذه الثيمة، لجعلوا من جغرافية العراق جغرافيا كونية منحت القدسية ليس لآثارها وأنظمتها طوال أربعة آلاف سنة، بل للعديد من الديانات وهويات بلدان لم
تتصل بالعراق. مثل هذه المعادلة لا تصلح إلّا في العراق الذي لم يكن في أي عصر من عصوره تحت هيمنة حكم أحادي يلغي ما سبقه، أو يبتكر له حيثيات حكم جديدة لا تمت بصلة لتاريخ ومكونات البلاد القديمة. فالحكم، أي حكم، هو نص، سياسي، ثقافي، معرفي، يقوم على رؤية كونية شاملة، يأخذ بعين الاعتبار تاريخ البلاد ومكوناته المعرفية والثقافية، وجذوره
وتطلعاته، ..
إنّ بابلون في أرض عراقية، وان تراثها عراقي، وأولى بنا أن نعيد هذا الإرث لحاضرة تراثنا لا أن نغض النظر عنه كما لو ولد في أرض أخرى. الرؤية الأديولوجية لاي سلطة لايمكنها أن تلغي تراثا، أو لا تدّعي انه ملكها بالرغم من اختلاف العقائد، هذا ليس في موضع شك من أن تشكيل بلدان العالم جرى بمعزل عن تراثه، إلّا وكان تجربة سياسية فاشلة وقاصرة عن الرؤية الكونية الشاملة، وقد تنتهي إلى ما انتهت إليه التجارب السياسية والثقافية الشمولية السابقة. عالم اليوم بنية هجينة مؤلفة من أنظمة اقتصادية وثقافية ودينية متنوعة، وقد لا تكون جميعها على سياق واحد، فالشعوب الأوروبية والأميركية مثلا، ادخلت ثقافة المهاجرين في صلب بنيتها الثقافية والسياسية، لأنّها ثقافة مؤصلة ولا يمكن تجاهلها، فالتقاليد التي تنتمي إليها هذه الجاليات، جزء من التنوع الحضاري، ولذلك لم تكتف في التعامل معها بحدود الاندماج اللغوي والتنظيمي والعملي، بل بالمشاركة الواسعة حتى في أنظمة
الحكم والمؤسسات.
لقد فشل النظام السابق لأنه جيّر التأصيل الثقافي البابلي بنوعية من التاريخ الشخصي، واعتمد على عناصر شوفينية في كتابة التاريخ وفي تأثيل البديل الثقافي الخاص باديولوجيته، وادّعى دون تأسيس علمي أنّه ينحدر شخصيًا من أصول ثقافية رافدينية متأصلة، والحقيقة انه مارس عزل الثقافة الرافدينية وحصرها في مقولات وممارسات عروبية دون انسانيتها الواسعة، والأمر نفسه لو حصرنا جذورنا الثقافية في سياقاتها الدينية فقط، سنقع في وهم الأحادية الشمولية، وهو ما لم ينسجم وتنوع الحضاري والثقافي في عالم اليوم، إن من يملك جذرًا ثقافيًا عميقًا كما تتبناه دول مثل روسيا القصيرية عن حضارة وادي الرافدين وانتمائها البعيد لجذورنا الدينية، عليه أن يفتح أعين جغرافيتنا وتراثنا بسعتها على العالم، لأن تراثنا مصدر اشعاع>
المصدر جريدة الصباح
28-01-2019, 05:02
المصدر: https://www.ina.iq/80522--.html
العودة للخلف