أ.د عامر حسن فياض
يتميز نظام التعليم الذي اقترحه افلاطون بمراحله المتتابعة، التي تكون لكل مرحلة منها أهدافها وبرامجها، إذ يتطلب الكشف عن المواهب الحقة لدى الصغار أن تبدأ مرحلة التعليم الأولى منذ الطفولة وحتى سن العشرين. حيث يدرس فيها الأطفال من الجنسين الموسيقى والشعر والتربية البدنية، فتعلمهم الموسيقى الانسجام والتناسق والتناغم ومحبة العدل
فهي بذلك الحل لمشكلة التعارض بين الشجاعة واللياقة، ويعلمهم الشعر الذي تختاره السلطة السياسية المشرفة على البرنامج التعليمي القيم الأخلاقية ويلقنهم المثل العليا، وتعلمهم الرياضة الصبر والطاعة وتبني أجسادهم وتتعاون مع الموسيقى في بناء عقولهم وأعدادها لتلقي القيم والمثل الفاضلة.
وتمتد مرحلة التعليم الثانية بين سن العشرين والثلاثين، وتستهدف الإعداد الجسدي والعقلي والخلقي، ويلتحق بها الناجحون في المرحلة الأولى، مبتدئين بدراسة الرياضيات والفلك والفلسفة والميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة)، وتبدأ المرحلة الثالثة بعد سن الثلاثين، ويدخلها الذين اجتازوا المرحلة الثانية بتميز وتفوق لإعدادهم، ليكونوا الفلاسفة الحكام عبر دراسة الفلسفة والجدل والتأمل فيما وراء الطبيعة، لتنمية عقولهم وتطوير قدراتهم التأملية الفلسفية. ولكن دخول الفرد إلى البرنامج التعليمي لا يعني بالضرورة إكماله له واستمراره فيه حتى نهايته.
فقد لا يكون هذا الفرد مؤهلاً لذلك، وهو ما يستوجب إيقافه عن متابعته، ونقله إلى برنامج الإعداد المهني التطبيقي الذي يناسب مؤهلاته، ويتفق وقدراته، تمهيداً لإدراجه ضمن الطبقة التي هو مؤهل لعضويتها أو تستوجب متابعته للبرنامج التعليمي ونقله إلى المرحلة الثانية، وصولاً إلى المرحلة الثالثة، حيث توكل لمن يختارها مهمة ممارسة بعض الأنشطة السياسية، ليكتسب المهارات العملية والخبرات التطبيقية طوال خمس عشرة سنة، ويجتاز بعض الأفراد المميزين هذه المراحل والاختبارات كلها عند بلوغهم سن الخمسين، فيصبحون بذلك مؤهلين كفلاسفة يعرفون انفسهم ويسيرون في طريق المعرفة الحقيقية المطلقة، وصولاً إلى الفضيلة الكاملة. وهؤلاء هم الجديرون بتولي مهام السلطة وتحمل اعباء الحكم ومسؤولياته، وهذا تكليف لهم وواجب عليهم وليس تشريفاً أو تكريماً لهم، وواضح من طبيعة هذا البرنامج التعليمي أن هدفه هو خلق المواطن الصالح الذي يعتمد مقدار صلاحه على مقدار ما يحصل عليه من معارف وخبرات تمنحه القدرة العقلية الجسدية والاتزان النفسي وتجعل جسده خاضعاً لعقله وليس العكس، ليؤدي ما هو مؤهلا له من أعمال، وليشيع العدل في مدينته وبين ابناء مجتمعه الذي ستزداد فضائله كلما ازدادت كفاءة أعضائه ودرجة تخصصهم الوظيفي. ويظهر تقويم برنامج افلاطون التعليمي طول مدته الزمنية وتعارضه، مع مبادئ النظام الديمقراطي الاثيني القائمة على حق الفرد في الحصول على التعليم، الذي يرغب فيه بعيداً عن تدخل السلطة السياسية، التي يتم اختيار حكامها بالقرعة أو الانتخاب، وهو ما يعكس معارضة افلاطون لذلك النظام، ومحاولته لاستبداله بنظام نخبوي فكري يقوم على التخصص المعرفي وزيادة كفاءة الأداء الوظيفي.
وبعد افلاطون جاء تلميذه ارسطو ليتابع نهج افلاطون التربوي وتماثل معه في ما افترضه من:
- إلزامية التعليم لجميع المواطنين.
- أخلاقية الأهداف التعليمية وبُعدها عن المنافع العملية الشخصية.
- اجتماعية الأهداف التعليمية واستهدافها خلق مواطنين صالحين.
- استثناء العبيد وجعل تعليمهم متعلقاً بالمهن العملية المفيدة وإدراجه خارج البرنامج التعليمي العام.
واذا يخضع البرنامج التعليمي عند ارسطو لاهداف الدولة ونظامها السياسي، ويتشكل وفق طبيعته وأهدافه، فمن الطبيعي أن يختلف مواطنو الدول باختلاف برامجها التعليمية المختلفة أساسا باختلاف طبيعة الدول وأهداف أنظمتها السياسية.
ويحدد برنامج ارسطو التعليمي المقترح مراحل التعليم الاولية، ويقسمها على ثلاث مراحل:
المرحلة التعليمية الأولى:
وتبدأ من الميلاد وحتى السابعة من العمر، وفيها يتم بناء الجسد صحياً ورياضياً للتعود على تحمل متاعب المناخ وقسوة ظروفه، مع الحرص على حماية الصغار من القصص المخلة بالآداب والمناظر التي تسيء إلى العين والذوق.
المرحلة التعليمية الثانية:
وتبدأ من السابعة وحتى الرابعة عشرة وفيها يتعلم الطلبة أداء الاعمال وليس فهمها أو تحليلها، وتدفع تدريبات هذه المرحلة إلى اللطف والتوافق الحركي وجمال البنية وكمال الجسم تغذي كل ذلك موسيقى تنمِّي العقل وتربي الجسد وتتكامل مع تدريباته.
المرحلة التعليمية الثالثة:
وتبدأ من الرابعة عشرة وحتى الحادية والعشرين، وهدفها تحويل المواطنين الذين أعدتهم المراحل السابقة، ليصبحوا مؤهلين لممارسة مهام الحكم وإدارة السلطة، من خلال تدريبهم على أداء واجباتهم المدنية، مكتسبين قدراً من الخبرة والحكمة يزداد بمرور الزمن ويتعمق، وقادرين على استخدام عقولهم لحل ما يواجهونه من مشكلات فردية واجتماعية، وصولاً بهم إلى المرحلة الفلسفية التأملية.
وتوضح طبيعة هذا البرنامج وأهدافه استهدافه أولاً واخيراً، تحقيق الخير لمجتمع دولة المدينة ونظامها، وإن آخر ما يرد في جدول اهتماماته هو الخير الفردي المجرد، وان كان فيه شيء من ذلك الخير، فلأن فيه خدمة لمصحلة الدولة مجتمعاً وسلطة سياسية حاكمة وتحقيقاً لخيرهما العام والمشترك عبر المواطن الصالح.