يسجل للمسلمين عبر الرحالة والمبلغ والعالم والسفير (العراقي) احمد بن فضلان (309هـ) بأنه الاول في بذر البواكير الأولى للدراسات الانثروبولوجية (دراسات الإنسان والشعوب وثقافاتها وأعرافها وتقاليدها وقيمها وأخلاقها)، حينما دون رحلته إلى ممالك الشمال الاوربي ايام الخليفة العباسي المقتدر بالله (282-320 هـ)، بعده تقاطرت الانطباعات والدراسات إلى أن وصلنا إلى مرحلة غدت فيها دراسة سمات الشعوب أولوية لدى العديد من مراكز الدراسات والأبحاث الانثروبولوجية والنفسية والاجتماعية
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
ومدار اهتمام بالغ من لدن وكالات التجسس، لما لهذه القضية من اثر كبير في صنع السياسات وبناء العلاقات، فبعض مراكز صنع القرار صارت تسعى إلى فهم ثقافة وخصائص شعوب الدول الأخرى، ولم يعد سرا أن الاقسام المتخصصة في دوائر الاستخبارات صارت تعتمد خبراء كبارا في دراسة الشخصية القومية وسماتها، والمجتمع الفلاني وأعراضه وحالاته، وتكويناته وتاريخه ونمط عيشه، وأساليب بناء السلطة لديه ونظامه الاقتصادي، والهياكل الثقافية والبنية الاجتماعية فيه.الشخصية العربية كانت موضع رصد منذ زمن طويل، وكتبت المئات من الكتب عن تاريخ العرب وثقافتهم وفولكلورهم وسمات شخصيتهم، وقد اسهم علماء كثيرون ومنهم يهود متخصصون في علم النفس والاجتماع والانثروبولوجيا في كتابة أبحاث عن الشخصية العربية عامة وشخصيات الشعوب العربية في بلدانهم، كالشخصية الفلسطينية أو العراقية أو البدوية أو المصرية، ظهر في بعضها التحيز والتعميم واضحا، كما تتابعت دراسات عن شخصية رجال القبائل وثقافة القبيلة والريف وابناء المدن والسواحل، ولم يتأخر العلماء العرب انفسهم في ذلك فجاءت الحصيلة كبيرة واشكالية ومثار جدل إلى وقتنا الراهن.
فقد كتب في هذا المضمار على سبيل المثال لا للحصر، علي الوردي وحامد عمار وهشام شرابي وحليم بركات وشاكر مصطفى سليم وقيس النوري وعلي زيعور وسيد ياسين.
وفي سياق التنافس القومي ظهرت دراسات عن العرب في عيون الإيرانيين، والعرب في عيون الاتراك، وتأثرت جميع هذه الأبحاث والدراسات بما يسميه العالم العراقي الدكتور عبدالله ابراهيم بالمركزيات، فهنا مركزية إسلامية في القرون الوسطى كانت تتخيل وتتصور العالم غير الإسلامي وفق معاييرها، كما فعل العلامة ابن فضلان وابن خلدون، وهناك المركزية المعكوسة، مركزية الغرب الذي صارت معاييره مسيجة بأسوار المنهج العلمي وفرضت نفسها عبر هذه العلموية، رغم النقد الشديد الذي تعرضت لها (انظر لنقودات ادوارد سعيد مثالا )، وما يزال المجال مفتوحا لمزيد من التمعن والبحث والملاحظة عن الشعوب، كلما انتكست ثقافيا وحضاريا وتراجعت اقتصاديا وسياسيا أو تقدمت أشواطا في سلم الحضارة، قد يكون النقد الثقافي للمنظورات المستعملة لمعاينة السلوك الثقافي والسياسي والاجتماعي هو آخر هذه الاتجاهات، كما فعل الناقد السعودي عبدالله الغذامي في (القبيلة والقبائلية)، وعبدالله ابراهيم في دراساته الثقافية المتعددة، وجميع هذه الدراسات استهدفت استجلاء الحقائق والوقوف على الأنماط التي تحتاج إلى نقد وإصلاح وتغيير وتحديث.
ما نحن بصدده الآن هو الوقوف على طبائع وخصائص وايجابيات وسلبيات وأنماط الشخصية العراقية، ناظرة إلى العالم ومنظورٌ اليها، لإعادة التوازن إلى هذه الشخصية بعد سني الاستلاب والقهر والنرجسية والعنف والمقارنات غير المجدية مع الآخرين، السؤال الذي آثرنا تأخيره، هو لماذا يرفض العراقي انطباعات و(تقييمات) الآخرين له ؟، لماذا ينفعل غاية الانفعال عندما يجد أن الآخرين لا يضعون العراق والمجتمع العراقي والشخصية العراقية في الموضع الذي تخيله ويتخيله؟.
السبب ببساطة هو اختلاف المنظور والنظارات، أعني المنظور الثقافي والنفسي والاجتماعي والسياسي والتاريخي، والنظارات اللحظوية، التي ينظر منها الرائي والحاكي والواصف والمقيّم!.
ينظر بعضهم إلى العراقي بمنظار التاريخ والعلم والفكر والأدب، فيبدو العراقي، عالما وشاعرا وأديبا ومحدثا وقصاصا ومثقفا وو….›وينظر بعضهم من منظار آخر فيجد الثورة والعنف والانفعال والغضب والتمرد والمفاضلة بين الحكام والرجال والأزمنة والمذاهب والفقهاء، فتغدو الشخصية وبعدها المجتمع مضطربا صراعيا داميا فقيرا جائعا لا يعرف الاستقرار والهدوء ولا يتذوق الرخاء إلا قليلا وفي أيام قصيرة رغم ثراء البلاد.
وينظر آخرون بمنظار الدين والمذهب والفرقةالخاصة بهم ووفق مسطرتهم وصراطهم المستقيم، فيرون العراقيين أهل اهواء ورأي وبدع وفرق واحزاب وتعددية مفرطة، يغلب عليهم الاختلاف والتعصب والموت دفاعا عن المعتقد.
لو كان العراقي مكان الآخرين الذين ينظرون اليه، كيف سيرى نفسه ؟
كيف يرى العالم من حوله؟
كيف يفسر الحوادث والقضايا والمتغيرات؟.
لا شك أن المنظورات وزاوية النظر هي ما تكون الرؤية، مضافا إليها البيانات والمعلومات والوثائق والاخبار الصادقة، لا الخيال ولا المسبقات الذهنية ولا الانطباعات الخاطئة والمعلومات المظللة والمتكلسة والصدئة.
نشتكي من تحيز الآخرين ضدنا وتقليلهم من شأننا، ونحن نمدهم معلوماتيا وإعلاميا بكل مايسيء إلى صورتنا التي نعتقد انها جميلة، وواقع الحال يقول إن الجميل لا يبقى على جماله، وإن العالم لا يبقى عالما ما لم يجدد ويحدث ويطور علومه ومعلوماته وبياناته، ولا المثقف يبقى متربعا على عرش الثقافة وهو لايرى العالم بغير أدواته القديمة، العلم ينمو، والعالم يتغير، والحضارات تصعد وتهبط، والدول تدول بين القوة والضعف،، وما كنا نراه متخلفا بأعيننا صارت عيونه ترانا متخلفين، وما حسبناه يوما بدويا أسير ثقافة وقيم الصحراء صار يرانا متراجعين إلى ما كان هو عليه سابقا.
الموضوعية والاعتراف والتواضع وحب العلم واللهاث وراء المعرفة والتجديد والتصويب والقراءة الواقعية والدقة، هي التي ترسم اللوحة الصادقة والنظرة السليمة، فما نعاب عليه هو نفسه ما عبناه يوما على الآخرين، انه الزمان الذي يصنفك وفق ماانت عليه، والزمن الحضاري هو أحد مكونات مركب الحضارة صعودا ونزولا.
ولنعترف أننا نعيش زمنيا في مرحلة التخلف عن جميع الذين كنا نتقدم عليهم، فمن مستلزمات النهوض الاعتراف والتشخيص وليس الانكار، ثم العمل على توفير مستلزمات وشروط النهضة، ونحن نملك بعضها ونتعثر بالاخرى، وأهم واعظم تلك المستلزمات الرؤية السليمة وما يؤسف له أننا مازلنا في مرحلة التيه.