ينبني الفكر النقدي على قراءة وتوظيف مناهج معرفية (أبستيمولوجية)، ليست مهمتها نسخ أنموذج غربي بعينه والسعي للكشف عن جذور له في التراث، إنما كان جل استغلالهم منصبًا على توظيف هذه المناهج في فهم التراث، وفق تمرحل الفكر ومقتضيات الصراع في «زمكانيته».كشف مفكرو هذا الخطاب عن عقم القراءات الاستنساخية أو الانتقائية للتراث، في محاولة منهم لنقد نزعة «التقليد» والكشف عن «الوظيفة الأيديولوجية» التي كانت سبباً في بزوغ فكر ما وأفول فكر آخر.
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
ما ميز هذا الخطاب أن مفكريه كسروا هيمنة التوظيف العقائدي، لفكر سلطوي سائد، بوصفه فكراً مثل أنموذج الخلاص للأمة أو المجتمع، ولم يكن من همهم الدفاع عن «عبقرية السلطة» وعظمتها، بوصفها سلطة مستقاة من التراث أو سلطة متبناة على وفق أنموذج غربي ناجح.
لقد تخلص أصحاب هذا الخطاب من استنساخ الفكر من التراث أو من الحداثة، ومحاولة تبني (المنهج النقدي) كونه يشكل وعي الذات بنفسها ووعيها بتأريخها العلمي الماضي والحاضر، ومن ثم وعيها بفكر الآخر وتأريخه العلمي وكيفية تكون الذاتين.
هذا يعني عدم الإيمان بوجود مناهج للبحث دائمة، والأبستيمولوجيا بوصفها (منهجا نقديا) بمفهومها المعاصر هي محاولة للتخلص من سلطة (الفلسفات الجاهزة) أو استعارة «الأنموذج» وتقليده.
في الأبستيمولوجيا «الموضوع هو الذي يفرض كيفية التعامل معه، وليس المنهج هو الذي يفرض على الموضوع آلياته، شرط أن يدخل الباحث إلى الموضوع دون انحياز إلى أي منهج مهما كانت سلطته، فيجعل الموضوع هو الذي يختار المنهج الذي يتلاءم مع طبيعته».
لم يُصدَر مفكرو هذا الخطاب خطابهم على أنه وصفة جاهزة للخلاص، وتحقيق «النهضة المرجوة»، فالمفكر فيها باحث يدعو القارئ لمشاركته في الفهم أو في النقد، لأن مهمة الاثنين إنما هي محاولة استخراج معانٍ جديدة في «التراث» لم يُصرح بها قائلوه حتى تصبح العلاقة بين المفكر (الناقد) والقارئ وبين «التراث» لاستنطاقه، لا بقصد «نمذجته»، بل بما يحفز (المفكر) والقارئ على إنتاج معانٍ جديدة.
اتخذ مفكرو هذا الخطاب من مناهج عدة طريقة لها في الكشف عن النص وفهمه، ولم يلتزم أغلبهم بمنهج واحد، فهناك من استعان بمناهج مختلفة بحسب طبيعة الموضوع المدروس في التراث أو غيره، فخذ مثلاً على ذلك محمد أركون الذي استعان بمناهج اللسانيات الحديثة، وعلم النفس المقارن، والأنثربولوجيا، والتأويل، والبنيوية، والتفكيك، وكذا الحال مع الجابري وأبي زيد وآخرين، لأنهم وجدوا أنها مناهج لفهم التراث وفق زمانيته أو «تاريخيته».
تأسست قراءاتهم للتراث العربي الإسلامي على وفق «تبيئة» المناهج والمفاهيم الغربية المعاصرة، معتقداً بأن الحضارة العربية والإسلامية، لها ارتباط زماني ومكاني وثقافي مع الحضارة الغربية أكثر مما هو مع حضارة الشرق الأخرى لا سيما الصينية والهندية واليابانية.
وفي هذا الرأي رد على أطروحة هنتنجتون صاحب كاتب «صدام الحضارات».
فأركون يسعى جاهداً لتعريف الغرب بالشرق، وتعريف الشرق بالغرب، لقناعته أنهما ما زالا لم يعرف بعضهما البعض، فما عرفه الغرب عن الشرق أنه روحاني وهذا ما أيدته كتابات المستشرقين، وما عرفه الشرق عن الغرب أنه مادي، وهذا تصور دفعت باتجاهه حركات الإسلام الراديكالية وحتى الحركات
لصوفية.
وكلا النظرتين مرتبطتان بالتصور الأسكولائي القرووسطي.
لذلك نجد أركون يؤكد «تلاقح الثقافات» وتلاقيها لا سيما في كتابه «نزعة الأنسنة»، أو في تأكيده على أهمية فلسفة ابن رشد بطابعها العقلاني والتلقي الإيجابي الغربي لفلسفته، لا سيما فلسفة تلميذه المسيحي توما الأكويني وتلميذه اليهودي غير المباشر (ابن ميمون) الذي عكف على دراسة فلسفة ابن رشد.
مثلما عمل المتطرفون على تصدير الوجه الأحادي للدين، يرى مفكرو الاخطاب النقدي أن الغرب قد شارك في بلورة هذا التصور لـ «الدين الأرثذوكسي» بخصومتهم المستمرة للإسلام.
إذ يعتقد أركون أن الغرب صنع له عدواً جديداً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، واتصار المنظومة الرأسمالية على المنظومة الاشتراكية.
و»كأن الغرب لا يستطيع أن يعيش من دون عدو تاريخي يقف في مواجهته»، فصنعت ثنائية جديدة بديلة عن ثنائية (الرأسمالية ـ الاشتراكية) وهي ثنائية (القيم الكونية)، متمثلة بالغرب و(البربرية الجديدة) أو (الإرهاب) متمثلا بالعرب والمسلمين.
أو محور الخير الذي يمثله الغرب (!!) ومحور الشر الذي يمثله العرب والمسلمون (!!).
وكأنها عودة لصراع الأديان بوصف كل واحد منها يمثل الدين الحق وكل مُخالف على باطل، خالد في جهنم وبئس المصير(!!).
إن الخروج من هذا المأزق هو الذي يترافق ويتزامن مع خروج الغرب نفسه من رؤيته المنغلقة في تصوره للمسلمين والعرب، مثلما ينبغي على العرب والمسلمين الخروج من «الأطر المغلقة» في تصورهم الفكري للذات أو في الموقف من الآخر.