ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
في اللحظة التي ألقت فيها الولايات المتحدة قنبلتيها الذريتين فوق هيروشيما وناكازاكي سنة 1945، كانت الساعة الحضارية تشير إلى موت الحداثة، وانتهاء زمنها، لا بالمعنى الافتراضي فقط، بل بالمعنى الحقيقي. لأنَّ السلوك والتعاطي الأميركي، ومن ثم الغربي، مع معطيات الحداثة، بكل تفاصيلها، كان سلوكاً متردياً يشرب من ينابيع الانتهاكات والاستعباد والخرق الفاضح لأبسط القوانين الإنسانيّة. قد يعترض أحدهم ويقول إنّنا نحن اليوم إنما نعيش ونفكر ونمارس حياتنا بكل سهولة بفضل التحولات الكبيرة التي هبطت من جبل الحداثة علينا مثلما تهبط أسراب الطيور، لكن في الواقع، أن حضارة الحداثة وما بعدها تسير اليوم بشكل متواصل نحو حتفها الذي سقطت معه هي وكل متبنياتها، بسبب ما تمارسه من بشاعات فاقت بها أسوأ أزمان البشريّة توحّشاً. ورغم سقوطها منذ زمن في جميع الاختبارات الإنسانيّة، لكن سقوطها المريع كان الأكثر سوءاً وبشاعةً هو ما حصل في موقفها من الحرب علىغزة.
دول كثيرة كنّا نَكِنُّ لها الاحترام، ونراها دولاً ذات سلوك إنساني وحضاري، كشفت عن وجه مشين من حرب غزة، لعلَّ من أهمها ألمانيا التي انطلقت منها مواقف مؤيدة لسلوكيات القتل التي تمارسها قوات الاحتلال، إلى الدرجة التي أعلن فيها مستشار ألمانيا أولاف شولتز عن رفضه لإيقاف الحرب في غزة، بل إن ألمانيا اصدرت قوانين مجافية لأبسط حقوق حرية الرأي، تصل فيها العقوبات إلى مستوى السجن أو الإبعاد من أراضيها لكل شخص ينصر غزة، أو يقف معها حتى لو بكتابة منشور في وسائل التواصل
الاجتماعي.
في حين تبدو النخب السياسيّة والثقافيّة الأوربيّة مثل ميليشيات متطوعة تعمل بإمرة الكيان الغاصب، تدافع عنها، وتتبنّى مواقفها، وتُعلي صوتها من أجل استمرار الحرب التي انهزمت فيها إنسانيتهم وأخلاقهم ومتبنياتهم المعرفية بشكل يدعو للأسى.
النواميس التاريخيّة للحضارات الكبرى، تستند إلى قاعدة أساسيّة تتمثل في أنَّ سقوط هذه الحضارات لا يكون بفعل القوة العسكريّة أساساً، بل إنَّ هذا السقوط هو نتيجة عرضيّة لسقوط أخلاقي واجتماعي ينخر جسد هذه الحضارات، ويجعلها تفقد توازنها في اللحظات
الحاسمة.
وفي الحقيقة أنّ ما نقوله هنا ليس تبشيراً لسقوطها، ولا هو أمر ينبني على الآمال أو الرغبات أو الغيبيات، بل إنّه نتيجة حتميّة لتخلي هذه الحضارات أو تلك عن مسؤوليتها الأخلاقيّة في اللحظات الحاسمة.