في مقال الاثنين الماضي توقعت أن يكون أحد تداعيات حرب غزة عودة الصدام الثقافي مجدداً بين الغرب والعالم الاسلامي، شاركني الرأي العديد من نخبة القرّاء وتحفظ الصديق الاستاذ محمد الشبوط لأنه يعتقد أن داخل الغرب حراك رافض للمواقف الرسميَّة والحكوميَّة بدأ يضغط، وأنه لا ينبغي التسرّع في توقع عودة الصدام الثقافي لأن المشتركات الإنسانيّة وتوق البشر إلى التعاطف والانتصار للمظلوم والسعي لتحقيق العدالة أكبر من التحيزات السياسيّة والمصالح المادية.
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
في تقديري أن ما كشفته حرب غزة هو التغاير في تعريف القيم والمبادئ الاخلاقيّة ما قاد إلى مساواة الجاني والضحية وتسبب ذلك بدوره بالانحياز المكشوف للكيان الاسرائيلي رغم ما ترتكبه قواته من جرائم قتل جماعي، ازدادت لتتحول إلى جريمة إبادة جماعية كاملة الاركان، كل ذلك يبعث على التوقع بأنَّ نقاشا ساخنا سيستعاد في قابل الأيام، وسيتصاعد مع سيادة علاقات الشك وانعدام الثقة والفهم المتبادل كلما ارتفع صوت دعاة القطيعة الشاملة والصراع الحضاري بين الجانبين!!، ليس لدى الغربيين وحدهم بل وفي أوساط نخبة عالم المسلمين، وسيترجم هذا الصراع والعقل الدوغماتي نفسه في اشكال مختلفة، كل فريق يتحدث عن القسوة والعدوان والكراهية والاستهانة بالحياة والكرامة الانسانية، لا يمنع من ذلك شجاعة فلاسفة ومفكرين وادباء وسياسيين ومعلقين غربيين ومن اليهود خاصة في اتخاذ موقف وسطي، لكن السياق الثقافي الغربي سيعود إلى خصائصه الشهيرة في المنعطفات التاريخية وهي التغطية على الحقيقة والحديث عن جانب ثانوي منها كما شرحها الراحل أدوارد سعيد (1935 - 2003) في كتبه الاستشراق و (تغطية الاسلام ) والثقافة والامبريالية، ولا شك أن مثقفين عرباً ومسلمين سيستعيدون فكر ادوارد سعيد وعبدالوهاب المسيري (1938 - 2008) مجددا وبقوة للبرهنة على أن الغرب والشرق لن يلتقيا، فثمة تناقض جوهري في ثقافة الطرفين وسيتطوّع كتّاب وباحثون لتعميق أخاديد الفصل والقطيعة كلما تلبّست الصراعات والازمات والمشكلات بلباس الدين والهوية الحضارية، ولذا لم يكن مستغربا أن يتشارك ساسة صهاينة وفنانون ومثقفون وساسة غربيون في مفردات الخطاب الهجائي الموجه ضد حماس ليتمدد على نحو أوسع ليشمل الاسلام، فتتكرر مفاهيم ومصطلحات الارهاب الاسلامي والصراع الديني بين الاسلام واليهودية والمسيحية ويجري استغفال العالم باستخدام ادوات القهر الدعائي بالتركيز الصوري على مشاهد ما فعلته كتائب القسام وشقيقاتها في المستوطنات الاسرائيلية لينشغل العالم (المتحضر) بما لم يثبت موضوعياً حتى الان عن جرائم قطع رؤوس اطفال واغتصاب للنساء وقتل للمسنين واختطاف للصبية، وقد نجح هذا الخطاب رسمياً في التسويق للسردية الاسرائيلية كمبرر لأفعال القتل الثأري والانتقامي للمدنيين في غزة رغم أن الاكثريّة منهم لاتوالي “حماس” ولا تدافع عن منهجيتها، سوى أنهم يشتركون معها في معاناتهم من الحصار الطويل والافقار والحرمان النسبي وضياع المستقبل.ما هو التفسير السايكولوجي لهذا الخطاب الازدرائي؟، وما الداعي للترويج المكثف لمقولة (حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها)، بما يعني تسويغ القتل المخطط والمبرمج لما يزيد عن 11 ألف غزاوي، ثلثاهم من الأطفال والنساء؟، مع الاصرار على قطع امدادات المياه والكهرباء وقصف المشافي وإخراجها عن الخدمة وترك الناس يتضورون جوعاً في الشوارع!!!.
هنا يظهر بكل وضوح واعتراف علني أنَّ الساسة الغربيين وبمؤازرة من نجوم ومشاهير في مجتمعاتهم لا يساوون بين ضحية مدنية اسرائيلية ونظيرتها الفلسطينية، فلا الدماء تتكافأ ولا الافعال توزن بمعيار قيمي أو أخلاقي واحد، كان وزير الحرب الاسرائيلي يوآف غالانت يكرر منذ الثامن من اكتوبر وصفه لاهالي غزة بأنّهم (حيوانات بشريّة)، ويعود في كل مؤتمر صحفي يعقده ليكرر ذات الوصف، ورغم النقد المخفف الذي تعرض له الوصف المسيء لآدميَّة الانسان الفلسطيني لكن فنانا امريكيا شهيرا هو (جون فويت) خرج منتقداً ابنته (انجلينا جولي) لأنّها رفضت ما يجري في غزة، الغريب أنه كرر كلام وزير الحرب الاسرائيلي وزاد عليها بالقول: “أشعر بخيبة أمل من تصريحات ابنتي كالكثيرين منكم، فهي لا تفهم أن الصراع حول تدمير تاريخ أرض الله، أرض اليهود المقدسة، بجانب الوقوف أمام العدالة السماويّة”.
وأضاف: “الإرهابيون هاجموا إسرائيل، والأمهات والأبناء الأبرياء، كما أنّهم يحاولون إبادة اليهود والمسيحيين، الفلسطينيون حصلوا على الكثير من المال الذي لم يشاركوه مع أحد، بدلا من ذلك اشتروا به الأسلحة، وأنتم تعتبرون إسرائيل المشكلة؟!”.
جون فويت فكر بصوت مسموع ولم يخف طراز التفكير الذي ينحدر منه خطابه وكلماته، وهو ذات الخطاب الذي تحدث به بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني السابق الداعي إلى عدم مساواة أفعال الفلسطينيين باليهود!!!، منتقدا تظاهرات لندن الداعية إلى وقف الحرب، كما هو ذات الخطاب الذي تتحدث به وزيرات الداخلية في ألمانيا (نانسي فريزر) وبريطانيا (سويلا برافرمان) وبنبرة عنصريَّة واحدة، ليجد هذا التفكير أصداءه لدى السياسيين الكبار الذين يرفضون وقف الحرب لأنّها بزعمهم ستمنح “حماس” فرصة للحياة وهدف العالم المتحضر إزالتها من الوجود!!، والافضل برأيهم هو البحث عن هدن محدودة وممرات إنسانيّة.
إنّ مشاهد القتل المروعة في غزة زادت ألف مرة عما حصل من قتل في يوم 7 اكتوبر في مستوطنات غلاف غزة، لكن الضمير الاخلاقي والاخلاق العملية لقادة الغرب ونجومه مازال غير مقتنع بوقف الحرب لان اسرائيل لم تستوف ثمن صدمتها، رغم أن الجميع!! (متوجع) للقتل الجماعي والابادة الممنهجة، وسبب ذلك ما يرجعه علماء النفس إلى الحاجة لتبرير القلق والتوتر الناجم من هذا الموقف غير العادل باتهام الضحية أنه مسؤول عما يلحق به، وهذا التبرير يفسره عالم النفس الامريكي ملفن جاي ليرنر (1929 -) بانه (نزوع لدى الافراد والمجموعات إلى تبرير افعالهم ليس فقط تجاه الاخرين وانما تجاه أنفسهم، ويبررون هذه الافعال على أنها نتيجة لافعال الضحية التي تستحق اللوم وبسبب خطأ شخصية الضحية).