ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
أحمد الشطريلكل صيغة خطاب شرائطها وأخلاقياتها التي تحددها الأعراف والأنظمة، وفي الغالب أن ما تحدده الأنظمة يكتسب صيغة الثبات والرسوخ، وهو ما يشمل صيغ المخاطبات بين الجهات الرسمية مع بعضها أو بين الأفراد وتلك الجهات، وغالبا ما تتأثر صيغ تلك الخطابات بطبيعة التوجه الأيديولوجي أو الفكري أو الاجتماعي، وهذه التوجهات تحدد طبيعة الخطاب وصيغته أو مقدماته، والتي يعد الخروج عنها خرقا للأخلاقيات التي نظمت صيغ تلك الخطابات.
في الدوائر الرسمية مثلا هناك ثمة اختلافات بصيغ الخطاب أو ما يمكن أن نطلق عليه (مقدمات الخطاب)، فالجهات العسكرية لها صيغ خطاب خاصة بها، والجهات المدنية أيضا لها صيغ خطاب خاصة بها.
فمثلا أن مقدمات الخطاب أو صيغه بين المرؤوس ورئيسه في الجهة العسكرية، ثمة عرف أن تتضمن كلمة (سيدي) في مجتمعنا، بينما يمكن أن تكون هذه الكلمة في المجتمعات الأخرى كلمة خطاب متداولة بين المدنيين. أما في الجهات المدنية فكلمة (أستاذ) هي الخطاب السائد بين المرؤوس ورئيسه في مجتمعنا.
في الخطابات الرسمية لا يمكن أن تأتي مقدمة الخطاب بصيغة (حبيبي أو صديقي العزيز)، حتى لو كان الطرفان بالدرجة الوظيفية نفسها، بينما هذه الصيغة هي النموذج السائد بين الأشخاص العاديين. وفي المؤسسات التعليمية يتم التخاطب بالدرجة العلمية (دكتور أو أستاذ)، بينما في المؤسسات الدينية تأتي مقدمة الخطاب بصيغة سماحة أو شيخ أو سيد.
إن مثل صيغ الخطاب هذه تمثل نظما أو أعرافا يتحتم الالتزام بها انضباطيا وأخلاقيا، لأنها تنطوي على أسس تنظيم العلاقات وتقنين الخطاب.
قد يتصور البعض أنها مجرد شكليات ليس لها علاقة بالنظام أو الأخلاقيات، ولكنها في الحقيقة صيغ تنظم وتقنن العلاقة بين الرئيس ومرؤوسيه، أو التلميذ ومعلمه أو الطالب وشيخه بالنسبة للمؤسسات الرسمية أو التعليمية أو الدينية، وفي الحياة الاجتماعية دائما ما تكون هناك صيغ خطاب عرفية، تنظم العلاقات بين الأفراد وتعكس القيم الخلقية لمقدمات الخطاب تبعا لنوع العلاقة الرابطة بين المتخاطبين، في علاقات القربى مثلا نادرا ما يتم تجاوز صيغة خطاب العم أو الخال، خاصة إذا انعدم فارق السن، غير أن هناك من يرى أن في ذلك خرقا للأخلاقيات، فيلزم نفسه بصيغة الخطاب هذه مهما تفاوت الفارق السني بينهما، وفي كثير من الأحيان- في مجتمعنا على الأخص- تكون صيغة هذا الخطاب صيغة عامة، حتى لو لم تكن هناك صلة قربى وهو تعبير عن الاحترام والتوقير وحسن الأدب.
في الفترة الأخيرة أصبح هناك ثمة خلل في صيغ الخطاب هذه، فباتت مفردة (حاج) نسقا خطابيا لدى أغلب الناس مفرَّغة في كثير من الأحيان من محتواها الشرعي أو الديني، وخاصة في مخاطبة من هم أكبر سنا، وهو أمر ربما ينطوي على مبرر أخلاقي، ولكن صيغة الخطاب هذه تفقد مبررها الشرعي والأخلاقي، إذا ما انتقلت إلى المؤسسات الرسمية لتحل محل الصيغ العرفية لمقدمات الخطاب، بل إننا بتنا نسمع مفردة (عمّي)، أصبحت صيغة خطاب بين الطبيب الأقدم أو الاختصاص، ومن يساعدونه من أطباء وممرضين.
وقد لا يبدو هذا التغير في صيغة الخطاب مهما على الصعيد العملي، بل ربما يعده البعض أمرا شكليا لن يكون له أي أثر سلبي، ولكنه كما أعتقد يعبر عن خلل ما في ضوابط العلاقات وأخلاقياتها، وهو أمر قد لا يبدو أثره ظاهرا أو ملموسا، ولكنه يمهد لنظم وأخلاقيات جديدة قد تفرش بساطها على سلم العلاقات المؤسساتية والمجتمعية، ومن ثم سيؤسس لصيغ ونسق خطابي يهشم القيم الذوقية والحضرية.