ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
ليس من قبيل الاكتشاف القول إن فكريات الفيلسوف الايطالي الماركسي (أنطونيو غرامشي) استدعت، منذ لحظة صدورها ولحد كتابة هذه السطور، الكثير من النقاشات وأثارت العديد من الجدالات التي لم تكن تخلو من مظاهر التعصب أو التطرف في بعض الأحيان، وذلك ليس فقط على صعيد الواقعين المحلي/ الايطالي والإقليمي/ الأوروبي فحسب، وإنما على مستوى العالم بشرقه وبغربه بشماله وجنوبه كذلك.ذلك لأن مضامين تلك الفكريات تجرأت - وللمرة الأولى - على زحزحة التصورات وخلخلت اليقينيات وفكفكت الأفهومات، لأشهر منظومة فكرية وفلسفية كانت سائدة في ذلك العصر ألا وهي (الماركسية). ولهذا فقد وصف الفيلسوف الايطالي (كروتشي) إن غرامشي هو من (أعظم مفكري أوروبا في هذا الوقت).
والحال ليست فقط تلك (الجرأة) العقلية و(المقدرة) المعرفية التي تمتع بها غرامشي، هي ما أسبغ على أفكاره وطروحاته المستحدثة في حينها ذلك الصيت من الشهرة وذاك المدى من الانتشار فحسب، وإنما لكونها صدرت من داخل تلك المنظومة، التي ظن أنها محكمة الصياغة ومتينة البنيان ليس ميسورًا لأي كان نقد مقولاتها أو التشكيك في استنتاجاتها، فضلاً عن أن من قام بهذه البادرة/ المغامرة، هو أحد أبرز قادتها السياسيين وألمع منظريها الأيديولوجيين كذلك. وهو الأمر الذي خلق له (غرامشي)، الكثير من الخصوم والمناوئين، سواء من داخل الحركة الشيوعية أو من خارجها، دون أن يحظى بقدر مماثل من المساندين لطروحاته والمؤيدين لتوجهاته، بحيث تسببت له تلك الأنشطة الخطرة والمواقف المتطرفة العديد من المشكلات السياسية المتراكمة والمعاناة النفسية المتفاقمة، والتي لم يبرأ من عواقبها أو ينجو من تداعياتها حتى لحظة وفاته في سجون الفاشية الايطالية.
ولعل من أبرز تلك الابتكارات المفاهيمية، والاستنباطات الابستمولوجية، والتحليلات السوسيولوجية التي اجترحها غرامشي، يمكن عدّ مفاهيم (المثقف العضوي) ونظيره (المثقف التقليدي) أكثرها شهرة في مجال الايديولوجيا وأشدها جاذبية في مجال السوسيولوجيا، نظراً، لكونها سمحت للعوامل الجغرافية والثقافية والنفسية أن تكون موازية في الأهمية، مقارنة بدور العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في تشكيل البنى وتكوين الظواهر. ولكن بقدر ما أفضت تلك المفاهيم إلى تعميق معارفنا وتوسيع مداركنا لجدليات وديناميات تلك البنى والظواهر، بقدر ما تسببت في ارتكابنا العديد من الإخفاقات ليس فقط في تحديد ماهية (المثقف) فحسب، وإنما في التباس دور ووظيفة هذا الأخير وفقاً لأنماط تصنيفه بين (العضوية) و(التقليدية) كذلك.
وبما أن المثقفين العضويين – كما لاحظ الباحث المتخصص في حياة غرامشي وأعماله (جون كاميت) – (الذين هم جزء من طبقة مسيطرة، يقدمون الأشخاص اللازمين لأجهزة الإكراه في المجتمع السياسي)، فإن ذلك كفيل بتغيير دورهم واستبدال وظيفتهم ونزع صفتهم (العضوية) وترشيحهم، من ثم، لاكتساب صفة (التقليدية). أي بمعنى أن المثقف (العضوي) حين يقوم بدوره (الطبقي) ويمارس وظيفته (الأيديولوجية)، سيكون مضطراً إلى مراعاة مصالح الجماعة التي ينتمي إليها ويمثل توجهاتها ويحمل رسالتها، بصرف النظر عن طبيعة الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تبشر بها تلك الجماعة، حتى ولو كان هذا الموقف (الدفاعي)، لا يمثل أو لا ينسجم مع مصالح الجماعات الأخرى في المجتمع.
ولأن دور المثقف (العضوي) – كما تنص أطروحة غرامنشي - ينصب على تمثيل مصالح الجماعة (المسيطرة) سياسيًا والمهيمنة (إيديولوجيًا)، الأمر الذي يترتب عليه استنفار طاقاته المادية وتعبئة قدراته الذهنية، ليس فقط لتبرير مواقف جماعته وتسويغ تصوراتها وشرعنة سياساتها فحسب، وإنما الحيلولة دون حصول تغييرات بنيوية تمس موقعها الاجتماعي، وتهدد مصالحها الاقتصادية، وتعرض دورها التاريخي للخطر. من هنا تشرع بدايات انسلاخه عن (عضويته) وتمظهر استحالته إلى مثقف (تقليدي)، من حيث كونه أصبح مدافعا"عن ثبات الأوضاع الاجتماعية واستقرار النظام السياسي وداعية للهيمنة الأيديولوجية.
والمفارقة أن هذا التحول/ الانقلاب (الكيفي) في الدور والوظيفة، لا يشترط بالمثقف (العضوي) أن يكون (واعيًا) به أو مخططًا له، وإنما يحدث الأمر تلقائيًا ودونما شعور مسبق، لا سيما ان الصلة أو العلاقة ما بين المثقف (العضوي) ونظيره (التقليدي) لم تنقطع تماما، كما أكد على ذلك غرامشي. ولهذا فإن صفة (العضوية) تحتم على المثقف الأول أن يكون، ليس فقط مدافعا عن مختلف الممارسات الخشنة (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) لجماعته فحسب، وإنما لإنجاح شتى محاولات الهيمنة الناعمة (الأيديولوجية والسيكولوجية والبيداغوجية) كذلك على بقية الجماعات الأخرى، سواء تلك المشاركة لجماعته في الاستحواذ على السلطة، أو تلك المقصية عنها في المعارضة، ناهيك عن السعي لاستمالة بقايا المثقفين (التقليديين)، الذين يسميهم غرامشي (حطام الطبقات) المهزومة تاريخيا.
ولعل سؤال يطرح نفسه؛ إذا كان احتمال فقدان المثقف (العضوي) لصفته هذه قائما، فهل يا ترى توقع احتمال أن يكتسب نظيره التقليدي صفة (العضوية)، وعلى أي أساس؟!. هذا ما سنعرف الجواب عنه في الموضوع القادم.