د. أثير ناظم الجاسور
لطالما عملت الوحدات الدوليَّة على تكوين مجموعة من الأفكار تنطلق منها في تنفيذ سياستها الخارجية، وفق متبنيات وانساق تعمل على تحقيق مصالحها التي بالضرورة تعدها ضمن أولويات الحفاظ على أمنها الوطني، وراح الكثير من الباحثين والكتاب الخوض في دراسة الواقع بالنسبة للسياسة الدولية، نزولاً للتصنيفات التي تم تحديدها بعد التحولات، التي طرأت على بنية النظام الدولي الذي تحول من منظومة دول تعمل بصيغ مختلفة إلى نظام عالمي جعل من التنظيمات والشركات لاعباً أساسيا في صياغة الأولويات والأهداف.
فكان للعالم جزآن من التفكير والتنظير الأول يتحدث عن قيم العدالة والأخلاق في صياغة النظام وضرورة والالتزام بالقواعد القانونية التي تجعل من العالم أكثر أمناً واستقرارا، وبين الأفكار الداعية إلى بناء الدولة لقوة تساعدها على أن تهيمن وتسيطر على القرار السياسي العالمي أو الإقليمي، والتي تتيح للدولة إثبات مكانتها العالمية وحماية نفسها، خوفاً من ابتلاعها من قوى أخرى تعمل على أن تكون لها القدرة على مجاراة التحولات في السياسة الدولية.
أسئلة عديدة تُطرح في ما يخص فكرة العدالة والأخلاق والمعايير القانونية التي من الممكن توظيفها في السياسة العالمية وهل من الممكن أن تأخذ هذه النصوص حيزها في تغيير مسار التعامل فيما بين الدول والخروج من دائرة الصراعات والنزاعات المسلحة؟، قد يختلف الكثيرين حول بناء فكرة متكاملة حول هذا الموضوع، خصوصاً أن المصالح هي من تحكم عمل الدول في ما بينها، وفق أسس ومعايير تم وضعها من قبل القوى المنتصرة سابقاً والمهيمنة حالياً، لم تسمح الصراعات والنزاعات على المناطق الحيوية أن تجعل من النظام العالمي يسير، وفق خطوات إنسانية تدعو إلى قيم العدالة والأخلاق، لا بل راحت كل المخططات تعمل على تنافس خطير ومرعب بين القوى الكبرى، ما جعلت من العالم مقسماً وفق الاحتياج، سواء الطاقوي منها أو الجغرافي، الذي يساعد على منع تمدد هذه القوى على حساب الأخرى، لكن ووفق ما ترسمه الدول من سياسات حاولت أن تُكَون ضمن تدرجية الستراتيجيات أن تجعل من قضاياها أخلاقية ومن حروبها عادلة.
السؤال الآخر كيف تمت إدارة هذا النظام بقواعد العدالة؟، ومن كانت له القدرة على تحديد فكرة العدالة في التنافس والحرب والدفاع في فوضى هذا النظام؟، بعد انتهاء الحرب الباردة، كان لا بدَّ من وجود تحديات جديدة تساعد القطب الأوحد على تعزيز مكانته وفرض هيمنته ووضع قواعد جديدة لعمل النظام الدولي، الذي ساعدت على تحويله نظاماً عالمياً استطاعت من خلاله صناعة نموذج مختلف عن النماذج التي سبقتها، فكان تركيز المهتمين بالدرجة الأساس على الجوانب النظرية، هو طريقة صياغة منظري المدرسة الواقعية لعالم، لا بد أن يخضع لقطب واحد همه الأول تعزيز المكانة ونشر النموذج، الذي على أساسه ستتم السيطرة على كل ما له علاقة بالمصلحة وبناء منظومة جديدة من الحلفاء، تساعدهم على رسم خارطة جديدة لعالم ما بعد الحرب الباردة، فكانت القوة الوحيدة على وضع هذه المرتكزات هي الولايات المتحدة الأميركية، بعد أن سيطرت على الجزء الغربي من العالم عملت على تعزيز سطوتها على الأجزاء الأخرى منه، واستطاعت من خلال ذلك التنظير من تبديل ستراتيجياتها التي عملت في ما بعد على فكرة الاحتواء والمحاصرة، خوفاً من بروز قوة أخرى منافسة تُعرقل علمية السيطرة والهيمنة التي باتت واحدة من أساسيات الأمن الوطني الأميركي، فحتى تهيمن أكثر على تدفق الطاقة (النفط) في الشرق الأوسط قادت حملتها العادلة لإخراج العراق من الكويت وتعزيز مكانتها في منطقة الخليج العربي عام 1990 – 1991 ولغاية اليوم، وحتى يكون لها موطئ قدم في مناطق الاتحاد السوفيتي السابق، عملت على التدخل في الجزء الجنوبي الشرقي من القارة الأوروبية في حربي البوسنة والهرسك عام 1995 وحرب كوسوفو 1999 لتكون بالقرب من، وعدها الواقعيون حروباً عادلة من اجل تخليص البشرية من الاضطهاد والظلم والقتل، وحروبهم العادلة الكبرى جاءت كردّة فعل على أحداث الحادي عشر من ايلول، التي أنتجت احتلاليين، أفغانستان للقضاء على الإرهاب الذي يهدد الإنسانية، والعراق الدولة المارقة التي تهدد الجيران والنظام، مثالية السياسة الأميركية والمرتكزة على التنظير الواقعي، لعبت دوراً في توظيف فكرة العدالة والأخلاق في تحقيق مصالحها والوصول إلى مبتغاها، التي أنتجت الفوضى في كل البلدان التي تدخلت فيها، فكانت نتيجة مثالية الواقعيين عمليات التدخل والاحتلال ووصولنا على ما نحن والعالم عليه اليوم.