علي المرهج
عمل مفكرو النهضة العربية بلا كلل ولا ملل، على نشر الوعي الديني العقلاني، في محاولة منهم لإعادة مجد المدرسة العقلانية الفلسفية الإسلامية، التي بدأت ملامح وجودها مع الكندي، وتجلت مع ابن رشد، وكلا الفيلسوفين، كان يروم الحفاظ على معطيات الدين الإنسانية والتوفيق بينها وبين نتاج العقل، على أساس القاعدة القرآنية «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن» (النحل/125)، وفق متبنيات الدفاع عن الدين الإسلامي بوصفهِ دين التعقل والحرية والعدل.
بدا فكر الإصلاح أقرب لمدرسة الاعتزال الكلامية، في دفاعها عن حرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، لأنه كائن حرُ مُريد، وهي نزعته توفيقية لا تختلف كثيرًا عن نزعة الفلاسفة المسلمين في التوفيق بين الحكمة والشريعة أو الفلسفة والدين، وإلى هذا ذهب الأفغاني ومحمد عبده، في تأكيدهما «أن الدين كلما خاطب خاطب العقل»، وما يبدو ظاهرًا أنه مُخالف للعقل وجب تأويله، ولم يكن الكواكبي في نقده للاستبداد بوصفه أساس الجهل والتخلف يختلف عن نزوع الفلاسفة في بناء «المدينة الفاضلة» التي يسودها العدل. دافع الكواكبي عن الإسلام العقلاني الذي يُحارب الاستبداد، وينشد الحرية، عبر دفاعه «الحرية» ونقده «وعاظ السلاطين» بتعبير علي الوردي، ولا يختلف الأفغاني عن الكواكبي في دفاعه عن «المشروطة» ونقده لـ «المستبدة»، بما يضمن للشعوب الحريات، والعمل على فصل السُلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية".
ولا يعتقد بوجود تعارض بين الرابطة الدينية والرابطة القومية القائمة بين أقوام ينتمون إلى أديان مُختلفة».
كانت مجلة «العروة الوثقى» المجلة الأكثر تأثيرًا في شعوب الشرق عبر تعريفها بنتاج الفكر الغربي في العلوم والسياسة، لتعي هذه الشعوب طرق المعرفة العلمية الحديثة، وسبل النهضة الفكرية والسياسية وتحقيق الحياة المدنية.
يبحث تيار الإصلاح عما يخدم الإنسان بما هو مواطن، كائن مدني بالطبع، ولا خلاف له مع نتاج الغرب العلمي والتقني، ولكن خلافه مع الغرب الاستعماري «الكولنيالي» الذي استنزف مُقدارت الشعوب الإسلامية، وحاربها في مُتبنياتها العقائدية والدينية، بل وصل الأمر بالشيح محمد عبده أن يدعو للاستفادة من المستعمر في إدارة أمور البلاد والاطلاع على تجربتيه في بناء حياة مدنية، فهو لا يرى ولا يعتقد أن في الدين ما هو مُعارض للعلم، وهذا ما أوضحه في حواره مع فرح أنطون في كتاب نشر بعنوان «الإسلام والمدنية»، أما الأفغاني فقد أخذ على عاتقه الرد على «الماديين» في رسالته «الرد على الدهريين»، تلك الرسالة التي كتبها للرد على طائفة من الهنود المسلمين، كان هم مفكريها تقليد الغرب تقليدًا مُتطرفًا، حتى في نزعاته الإلحادية، ولم يكن همه من كتابتها سوى الدفاع عن الدين الذي وجد فيه خلاصًا للضعفاء من هيمنة الأغنياء، وتحريرا للبشر من ربقة المستبدين، فلا طاعة لمخلوق بمعصية الخالق، وكل المستبدين إنما هم عصوا الخالق، حينما جعلوا من أنفسهم أربابًا من دون الله، فلا طاعة لهم، فكان جُل همه إفهام المسلمين الدين الصحيح القائم على التسامح ونبذ الطائفية، التي هي برأيه من صُنع الغرب المستعمر
الكولنيالي
حرص الطهطاوي خير الدين التونسي وكذلك الكواكبي ومحمد عبده على الدفاع عن الحريات العامة، مثل حرية التملك، وحرية الصحافة، وحرية المُعتقد، وحرية التعبير، وهي من أصول «المدنية الإسلامية» وفعل «التثاقف الحضاري»، الذي مهد له الفكر الإسلامي بتفاعله مع المنتج الحضاري والثقافي للفلسفة اليونانية وباقي النتاج الحضاري عند أبناء الديانات والطوائف الأخرى غير الإسلامية، فكان للسريان دورهم الفاعل في نقل العلم والفلسفة اليونانية أيام زهو الحضارة الإسلامية وإنشاء «بيت الحكمة»، وكذلك كان حال الكثير من اليهود، الذين نعموا في ظل الحضارة الإسلامية، لا سيما في الأندلس ولنا في تأثر «ابن رشد» مثال يُحتذى لمدى التسامح والتثاقف الحضاري في الفكر الإسلامي.