ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
عام 2005، اتيحت لي فرصة المشاركة في (سيمنار)، وهو كما معروف بالعربية، حلقة نقاشية أو ندوة موسعة، كانت قد إقامتها الخارجية البريطانية بالتعاون مع هيأة البي بي سي.المكان الذي كان محطة الاقامة هي مدينة (برايتن) في جنوب المملكة المتحدة، حيث كانت تدار جلسات النقاش اليومية حول الواقع الاعلامي في الكثير من دول العالم، مرورا بتجربة شبكة الاعلام العراقي التي كانت قد أُنشأت على غرار نظام البي بي سي.
ما قادني لهذا الاستذكار، هو توقف هيأة الاذاعة البريطانية عن عملها بعد اكثر من ثمانية عقود من العطاء الكبير والحضور الفاعل في خارطة الاعلام المسموع، واستعرضت شريط ذكرياتي عن تلك الرحلة، التي ابحرنا فيها في عباب ودهاليز تلك الهيأة العريقة، هنا أنا لست في مجال مناقشة فكرة التوقف هذا واسبابه الاقتصادية أو غيرها، بقدر ما أردت استعراض إرادة الانسان وقدرته على تحدي الصعاب مهما كانت، وإنجاز أعماله على الوجه الاكمل، ففي تلك الجولة المحفورة في الذاكرة، اقف امام امرأة كبيرة في السن قد تصل إلى عقدها الثمانيني دون اية مبالغة، أنيقة الملبس كيسة الأخلاق بشوشة الوجه، يرتجف جسدها الذي أجهز عليه تقدمها في العمر، إلا أنها كانت تسابق الريح اثناء سيرها امامنا بكعبها العالي وحقيبتها الجميلة وهي تستعرض لنا اقسام هيأة الاذاعة البريطانية، ولم يكن هذا الصرح العملاق وحده مثار اهتمامي في جولتي تلك فقط، إنما قوة تلك المرأة المثابرة المتمكنة من عملها وتحديها الواضح لسنوات العمر وقدرتها على قيادة مجموعة من الاعلاميين متنقلة بنا من قسم إلى آخر.
إنَّها بلا شك الإرادة التي ننحني احتراما لها، لأنها عكست مدى شجاعة الانسان وهو يصارع تحديات الحياة بكل أشكالها.
ولأن التقدم لا يتحقق دون منافسة وصراع لما يحيط بالانسان من اسلاك شائكة، كان لا بدَ من حضور هذه الارادة، فالنجاحات يصنعها الاشخاص، والقدرة على المطاولة والاستمرار لا تأتي عبثاً، فهي الركيزة الاهم في بناء الدول والمجتمعات.
واستغرب احياناً كيف يضع البعض مهمة النجاح على عاتق الشباب حسب، فالغرب بشكل عام واقصد الغرب المتقدم، لا يعترف بالسنوات العمرية مقياساً للعمل والوصول إلى الاهداف، والدليل على هذا وفي عودة إلى ذلك (السيمنار) الاعلامي، كانت هنالك عقول جبارة لأشخاص كبار في السن، تقود هذه الحلقات النقاشية وتغنيها وتتفاعل مع العقول الشابة في تتاغم قل نظيره، فلم يكن البروفيسور المحاضر متمسكاً برأيه ولا فارضاً خبرته على المجموع، انما كان هنالك حوار ودي عملي دقيق مهني تتصاعد حماسته باحترام وجهات النظر وتصحيحها باقناع مدروس ولطف كبير احيانا.
يقول عالم الاجتماع (كارل مانهايم): الأشخاص يتأثرون بشكل بارز بالبيئة الاجتماعية التاريخية، وعلى وجه الخصوص الاحداث (التاريخية)، التي يشاركون فيها بنشاط والتي تسيطر على شبابهم، مما يشكل على أساس تلك التجربة، أجيالا اجتماعية أصبحت بدورها عوامل للتغيير، وتعطي فرصة لبروز أحداث تشكل الأجيال المستقبلية.
وعلى هذا الأساس، يرى الكثير من الشباب، أن التغيير مرهون بقدراتهم الخلاقة المرتبطة بالحداثة والتجديد، وأن وجود الكبار يعد عائقاً كبيراً امام هذا الجموح المطلق، متناسين بقصدية احيانا وبغرور أحيانا أخرى، إن الخبرة التراكمية تكاد تكون هي الفيصل في الكثير من مفاصل الحياة العملية، لأنها استندت إلى ترسانة التجارب الكثيرة التي مر بها هؤلاء الاشخاص ممن تجاوزت اعمارهم عقودها الستة والسبعة، وما عاصروه من أحداث ونزاعات منحتهم فرصة الاستفادة من تفاصيلها وبناء شخصيتهم التي جعلت منهم قياديين وتربوين ومنظرين وغير ذلك.
ولا غرابة اذا ما توقفنا عند مفهوم الفرق بين من يسير باتجاه هدفه مبحراً أو راكضاً، والآخر الذي ينتظر ان يتقدم الهدف باتجاهه دون ان يحرك ساكناً، مثله مثل المهاجم الذي يقتنص لحظة تسديد الرمية، والمتفرج الذي يستأنس حين يحصل على مبتغاه دون أن يبذل جهدا، لأن هذا (المفهوم)، إنما هو المعيار الحقيقي لارادة الانسان وشجاعته في المنازلة مع الحياة.