ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
منذ أن عرف العالم مصطلحا اليمين واليسار في ذات العام الذي انفجرت فيه الثورة الفرنسية 1789، وهذان المصطلحان يتعمقان تنظيرا وممارسة، ابتداء كان اليمين يعني بكل وضوح الاتجاهات المحافظة، التي تريد إبقاء الحال السياسي على ما هو عليه ومنع التغيير، خوفا من الفوضى وعدم الاستقرار، يقابله مفهوم اليسار الذي عنى كل الاتجاهات السياسية الرامية، إلى تغيير الأوضاع بالثورة عليها وتحسين شروط الحياة السياسية والاقتصادية، لصالح الطبقات الفقيرة وتوسيع مساحة مشاركتها في السلطةبعد ذلك دخلت تطورات كثيرة على المفهومين، وصارا يعبران عن اتجاهات فكرية ومعرفية ورؤية شاملة للعلاقات والمصالح والأهداف، وصار من الصعب تصنيف القوى والأفراد على لوائح اليمين واليسار كما في السابق، فقد تجد قوى محسوبة تاريخيا على اليسار تتخذ مواقف (يمينية) سمتها الانغلاق والتشدد ورفض التغيير، وصارت قوى يمينية محافظة تتخذ مواقف راديكالية وتدعو إلى قلب الأوضاع وتنادي بالثورية وهي خصيصة ثابتة
لليسار.
عموما كانت مظلة اليمين تتسع للقوى الرأسمالية والأغنياء والمحافظين اجتماعيا وسياسيا، والاكثر دفاعا عن المؤسسية وبقاء النظم (مختلف النظم) على حالها مع تحديث مسيطر عليه، بينما كان اليسار يضم الاتجاهات الداعية إلى مواجهة الرأسمالية والسلطات المهيمنة والعلاقات الاقتصادية التي تؤسسها وتحرص على ادامتها، كان اليسار ولا يزال عنوانا للحركات الثورية والإنقلابية الرافضة للهيمنة الامبريالية والسلطات والأحلاف، التي تنشؤها، وبينما كانت القوى الدينية والمؤسسات الدينية مصنفة ضمن الاتجاهات اليمينية المحافظة، صارت الاتجاهات المنتمية إلى الفكر الديني، تصنف على لوائح اليسار الجديد، كلاهوت التحرير في أميركا الجنوبية والاتجاهات الانقلابية الاسلامية في العالم الاسلامي، التي صارت يسارا إسلاميا في مقابل المؤسسات الدينية المحسوبة اساسا على اليمين.
تاريخيا كانت أوروبا الميدان الاوضح للعبة الصراع بين اليمين واليسار حيث انتج كلاهما قوى جديدة على يمينهما ويسارهما، وصار لدينا مايعرف باليسار المتطرف واليمين المتطرف، ومع نضج الحياة السياسية واستقرارها في بلدان القارة العجوز، كان نموذج دولة الرفاه وتعايش اليمين واليسار وتصالحهما في اطار الممارسة الديمقراطية يغوي بالنظر العميق إلى هذه التجارب الرائدة عموما واحتذاءها مع فارق الخصائص، بين النظم السياسية تلك والنظم القائمة في الشرق (ما خلا نماذج ديمقراطية راسخة كاليابان وكوريا الجنوبية)، تتأثر الأمزجة
والقناعات السياسية بحركة الأحداث والتطورات الجارية في العالم، وخلاف ما بشرت به العولمة من حريات وتواصل وانفتاح وتعميم في الأفكار والسياسات والنماذج، خاصة تسهيلها تمازج الهويات بعد التمركز على الذات والانغلاق القومي والتعصب الثقافي والديني، فقد عملت الأحداث السياسية الكبرى على تغيير التفكير السياسي، نحو تفكير محافظ مغلق وتفكير متحرر، بخصوص الهجرة والهوية والحقوق والمصالح الاقتصادية، وبدأنا نشهد صعود شعار (اولا)، ليعني إعطاء الأولوية للمصالح الذاتية بصرف النظر عن الأضرار، التي تلحق بالآخرين، كانت المؤشرات الأولى لهذه الاتجاهات في ايطاليا مع صعود اليمين واليمين المتطرف، واخيرا اليمين الشعبوي بزعامة جورجينا ميلوني، توازى ذلك مع وصول ترامب إلى البيت الابيض عام 2016 وظهور ما يسمى بالظاهرة الترامبية ذات الاتجاهات العنصرية والتمركزية، التي مثلها شعار أميركا أولا، تلاها انسحاب بريطانيا من الاتحاد الاوربي والعودة إلى سياسات الخصوصية القومية، بالتوازي مع تضعضع أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط في أوروبا، التي ظلت تتداول السلطة طيلة نصف قرن، الآن بتنا نشهد صعود قوى اليمين المتطرف إلى السلطة، فقد سبقت هنغاريا زميلاتها الأوروبيات، مع تمكن اليميني فكتور أوروبان من اعتلاء دفة السياسة، لأكثر من دورتين انتخابيتين، والصعود الصاروخي لحزب الديمقراطيين السويديين المتطرف في الانتخابات التي جرت في ايلول المنصرم، ليصبح ثاني حزب في السويد بعد الحزب الاشتراكي الديمقراطي العتيد، وتستعد دول أوروبية اخرى لتجربة مشاركة اليمين الشعبوي في الحكومات، أو على الأقل إحراج السلطات والسيطرة على مساحات جديدة في الفضاء السياسي، كما هو حاصل في فرنسا مع ماريان لوبين التي نافست ماكرون في الرئاسيات الاخيرة، وقريبا في اسبانيا واليونان وربما بريطانيا
ايضا.
ورغم فوز الجمهوريين فوزا ناقصا وباهتا في انتخابات التجديد النصفي لاعضاء الكونغرس الأميركي، إلا أن عودة ترامب إلى منصة الترشيح للرئاسيات مجددا سينعش آمال الاتجاهات اليمينية، معنويا في الكثير من بلدان العالم المتقدم وستستفيد من الضغوط الاقتصادية، لتدعو إلى سياسات متشددة ضد الهجرة
والاندماج.
فتحت الحرب الروسية على أوكرانيا الباب على مصراعيه لتصاعد الاتجاهات اليمينية والعنصرية المتطرفة، بسبب تاثيرات أزمة الطاقة وغلاء الأسعار وركود الاقتصادات والاستنزاف المتزايد للثروات نتيجة الانفاق في معظم دول الغرب مع تراجع دخول الأسر وانخفاض مستويات المعيشة وارتفاع نسب البطالة، كل هذه العوامل ذات المساس المباشر بمصالح الأفراد ستقود حتما إلى تغييرات في المزاج السياسي والانتماءات التقليدية، لتدفع نحو مزيد من التطرف والشعبوية، التي يجيد استثمارها سياسيون وحركات تراهن على قلب المعادلات السياسية ذات الاستقرار
النسبي.
ماذا عن الاتجاهات عندنا؟ رغم عدم وضوح لعبة اليمين واليسار في بلادنا وتداخل الاتجاهات بسبب سيولة المواقف والشعارات، إلا أن السياق السياسي قد يفصح عن اشكال من التصنيفات تحت ضغط الحاجة إلى استخدام المفاهيم والشعارات، للتعبير عن الموقف السياسي، فمن يطالب بالتغيير سيصنف حتما ضمن قوائم اليسار، بينما ستكون القوى المدافعة عن استمرارية الوضع القائم قوى يمينية، وكلاهما لا يعبر عن اتجاهات سياسية جوهرية بقدر ماهي مصالح آنية بلا برامج
رؤيوية.
لكن ما يعول عليه هو إنضاج مسار بناء الدولة في العراق في قبال قوى اللادولة، التي تعمل على إضعاف المؤسسات وخلق المزيد من مناخات الفوضى، إن استقرار سلطة القانون وترصين المؤسسات ومكافحة الفساد وتوسيع المشاركة السياسية، والكف عن الممارسات الشعبوية ستكون هي مائز التصنيفات بين القوى السياسية.