بعد اكتمال مشروع الدستور النافذ، لاحظ القائمون على كتابة النصوص ضرورة اجراء التعديلات، التي ستتم ملاحظتها، أو التي ستفرزها المرحلة القادمة عند التطبيق٬ وعلى هذا الأساس وضعوا نصا ضمن الفقرة الأولى من المادة (142) منه على أن يقوم مجلس النواب في بداية عمله بتشكيل لجنة من بين اعضائه (سنفترض أنهم من القانونيين والمختصين في مجال الدستور والقوانين)٬ إلا أن النص يوجب أن تكون اللجنة ممثلة للمكونات الرئيسة في المجتمع العراقي .
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
تأخذ هذه اللجنة على عاتقها مهمة تقديم اقتراحات بالتعديلات الضرورية، التي يمكن إجراؤها على الدستور وينتهي عملها بعد البت في المقترحات، على أن تعرض تلك المقترحات من قبل اللجنة دفعة واحدة على مجلس النواب للتصويت عليها، وتتطلب الموافقة على إقرارها موافقة الأغلبية المطلقة لعدد اعضاء المجلس.ثم أكدت الفقرة ثالثا من المادة نفسها على عرض المواد، التي تم اقتراحها بالتعديل على الشعب للاستفتاء عليها خلال مدة شهرين من تاريخ إقرارها في مجلس النواب.
لا شكَّ أن مهمة تعديل الدستور بعد العمل بموجبه في الفترة الماضية أظهرت بعض جوانب النقص الذي اعتراه والثغرات التي أصبحت مثار اختلاف، وبالرغم من الالزام الذي اوجبه النص الدستوري بالتعديل٬ فلم نلمس عمليا بوادر التطبيق٬ ولهذا تداعت العديد من الأصوات مطالبة بتعديل بعض النصوص بما ينسجم مع الواقع العراقي والمبادئ، التي قام عليها الدستور، والتطلعات التي لم يزل يتطلع اليها أهل العراق لترسيخ أسس المواطنة وقواعد الدولة المدنية، ولذا كانت المهمة في تشخيص الخلل والنواقص التي تخللته ليست باليسيرة أو من المهمات، التي يمكن لمجلس النواب بحالته هذه إنجازها على الوجه الأكمل، فقد تناوبت دورات من نواب المجلس لم نلمس منها سوى الوعود والتصريحات الإعلامية٬ مع أن النص يوجب التنفيذ للحاجة الماسة في المهمة التشريعية، وكان يفترض أن يتناخى المجلس ويقوم بمهمة المراجعة الدقيقة وأن يضع نصب عينيه مستقبل العراق من خلال تلك النصوص، وأن تتم معالجة النصوص التي تكون مصدرا للاختلاف وعدم الوضوح٬ وأن تكون تلك النصوص لكل العراقيين الخيمة، التي يستظل بها الجميع وأن تكون المواطنة هي الأساس، وبما يحفظ وحدة العراق واستقلاله وسيادته، مع التأكيد على تثبيت دعائم النظام البرلماني الديمقراطي الفيدرالي دون لبس أو أدغام أو غموض في النصوص، وأن يتم رفع النصوص، التي لا تخدم المرحلة المستقبلية للعراق، ولاتفيد عملية بناء دولة القانون، فالدستور ليس وثيقة جامدة أو بيان مؤتمر أو موقف سياسي، إنما هو مبادئ أساسية وحقوق وحريات وشكل السلطة الدستوري، بعيدا عن فجائع العراق الماضية التي سيذكرها التاريخ الحديث، ودون المساس بعذابات العراقيين وتضحياتهم التي قدمها شعب العراق على طريق الحرية والديمقراطية.
مهمة تعديل الدستور لا تعني ترقيع النص او ابدال نصوص محل اخرى، او خطوات ارتجالية غير مدروسة في مجال تشريع النص، فقد انتجت الفترة الزمنية الماضية مع الظروف الاستثنائية التي مرت على العراق، تلك الحاجة الماسة الى دستور رصين يحدد ملامح السلطات الثلاث، وينص على شكل النظام البديل عن النظام المركزي الذي كان من أسباب الخراب العراقي والتدهور المريع، الذي حلَّ في قيم المجتمع، واعتماد الطائفية والشوفينية كأرضية لهذا النظام، والتخلف الذي عم العراق بشكل عام وبعض المناطق بشكل خاص، إضافة الى تلك الحروب الداخلية، التي أستمرت نيفا من الزمن، أو الخارجية، التي كلفت العراق الكثير من البشر والأموال.
مهمة تعديل الدستور تبدأ بمرونة عالية وشفافة وحيادية ونكران ذات حتى يمكن تطبيق النصوص بشكل منسجم ومتطابق ومتوحد، حتى يمكن التمعن في النصوص التي ينبغي تعديلها أو إلغاؤها٬ وأن نضع أمام أعيننا مستقبل الأجيال التي سيحكمها الدستور .
ومن خلال التجارب التي مرت بها الدساتير المتنوعة يتضح أن العمل بالدستور الجامد الذي يضفي على الدستور نوعاً من الهيبة والقدسية، هو الأكثر ضماناً من محاولة الالتفاف على النصوص وسهولة تغييرها، وألا يتم إلغاء أو تعديل أو إضافة نص دستوري، إلا بموافقة الرأي العام أو البرلمان، وجعل عملية التعديل مرنة في حال الضرورة، إضافة إلى تحقيقه الاستقرار من التحكم في نصوصه مستقبلاً، إضافة إلى الحماية التي يشكلها وجود المحكمة الاتحادية العليا، ومهما يكن الأمر فإن الابتعاد عن التحجر في النصوص وجمود عملية التعديل لا يخدم آلية الحياة الدستورية، كما أن عملية المرونة وتمكن السلطات من تغيير النصوص والتلاعب بها يعرض السياسة المستقبلية للتحكم والرغبات والمصالح، لذا فأن الوسطية في تبني هذه النظريات هي الأوفق والأنسب في التطبيق، أي ان الحل يكون في مرونة في التعديل مع نصوص نحافظ على متانتها ورصانتها .
ومع أن الدستور بحاجة ماسة للتعديل والمراجعة، الا أن الامر يدفع للتأكيد بأن هذا الدستور ينبغي أن يكون شاملا ومعبرا عن المبادئ الاساسية، وخاليا من الخطابات السياسية والعبارات العاطفية، خاليا قدر الامكان من الدماء والجماجم والمقابر والعذاب، على اعتبار أنه الوثيقة الأسمى، التي ترسم عراق المستقبل.
ولذا فإن الوضوح في النصوص القادمة التي تضمن حقوق الجميع وترسم خطوات ومبادئ اساسية نص عليها الدستور، تسهم في تقريب جميع وجهات النظر في مفاصل السلطات الثلاث، ولذا فإن النظر الى تلافي المواقف السلبية، التي أفرزتها المرحلة السابقة كفيلة بأن يستفيد منها المشرّع والمساهم في عملية التعديل المرتقبة.
وإذ مضت فترة ليست بالقصيرة على مجلس النواب وهو يدرس ويشكل اللجان المختصة للانتهاء من وضع صياغة التعديلات المنتظرة للدستور، فإن بقاء الخلافات والتقاطعات بين الكتل والأحزاب مع القضايا المهمة والمستجدة، ومع تراكم العديد من القوانين بحاجة ماسة لمناقشتها وإقرارها أو تعديلها أو رفضها لم ينجزها المجلس، بانتظار أن تتوفر له الفرصة للإنجاز، وإذ تترتب أمانة وطنية على عاتق أعضاء مجلس النواب، باعتبارهم يمثلون السلطة التشريعية المختصة طرح مشروع الإصلاح الدستوري، فهل يمكن للمجلس أن ينجز هذه المهمة
الكبيرة؟.