ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
يحلو للبعض المشتغل في المجال الفلسفي الثقافي، ومن باب المقارنة المناطقية أو الإقليمية في نوع الاهتمام الفلسفي، أن يميز هذا الاخير في بلدان المشرق العربي عن جزئها المغاربي، كون الاشتغال عند الاولى نخبوياً متعالياً، يقتصر على على طلبة الفلسفة ومدرسيها فحسب، ولا حق لمن خارجها بتداولها، فتصبح جامعاتها لا تنتج الا معلمي فلسفة، وليس فلاسفة،على عكس التعليم الإغريقي في عهود ما قبل التاريخ الذي أنجب الفلاسفة العظام، لذلك نجد أن سمة النشاط المعرفي ذو طابع أكاديمي مقنٍ ومسدود، حتى على مستوى النشر المحدود في هذا المجال، أقصد النشر في الصحف والمجلات غير المتخصصة، فالمقالة أو البحث مثلا يخضع الى شروط صارمة من مقدمة وتبويب وملخص أخير وهكذا، في حين وجدنا أن الفيلسوف الفرنسي- جان بول سارتر- في كتابه عن الشاعر- بودلير- بذات الاسم، يكتب على مدى اكثر من مئتي صفحة، دون تبويب، وبحريَّة مطلقة، يبدأ من الكلمة الاولى وحتى الاخيرة، وكان الكتاب جملة واحدة، مع أن الكتاب ليس من الكتب المهمة، فحسب إنما يعد استثنائياً في تطبيق المناهج الفلسفية لتوصيف العلاقة بين الأدب والفلسفة، عبر لغة سارتر التحليلية الأخاذة، وبعينة مشخصة لماهية الشاعر واشتباكه مع العالم، في نهاية القرن التاسع عشر ومع القطيعة الحادة في نوع الاشتغال الفلسفي، الذي أحدثه الفيلسوف الالماني- فريدريك نيتشة- الذي حقق انعطافة عميقة في السرد واللغة الفلسفيين، تهيأت مساحات للاشتغالات في مناطق لا مفكر سابقاً على حد تعبير الفيلسوف - مارتن هيدغر - فقد تعرض مشروع الحداثة الثقافي الغربي التقليدي للنقد اللاذع،في الوقت نفسه استهدفت الميتافيزيقيا الغربية برمتها تفكيكيا وجنيالوجيا، وحصل تشظٍ كبير في الاهتمامات الفلسفية، تحايث تماما مع الانشطارات الابستمولوجية في عموم المعارف، وهذا مهد الى تهديد الانماط التقليدية والمتداورة للموضوعات عبر أحقاب متعاقبة، فـ(فوكو ) لاحقاً جذبته أصقاع مهملة من قبل، لم تلتفت إليها الفلسفات السابقة، مثل الجنون والسجون والعقوبة والسلطة، والفيلسوف (يورغن هابرماز) مزج ما بين علم الاجتماع والسياسة والدين، واعترف أن الفلسفة باتت تخوض موضوعاتٍ لم تدشن من قبل، فبرز فيها الراهن والمحلي، فكان انهماكه في نقد عموم المؤسسات، موظفاً أدوات المدرسة النقدية على أوسع نطاق، وهكذا أصبحت الفلسفة ليست بمنقطعة عن الانسداد الأكاديمي، إنما ولجت أبواب الحياة بقوة، ولامست تطوراتها، ولم تعد مقيدة بمفاهيم مكررة، انما طفقت منتجة لها.التوجهات الأخيرة للاشتغال الفلسفي هو جعل الحياة معاشة في مداولتها للانشطة اليومية، متلامسة مع أشيائها، في كتابات الفيلسوف المغاربي -عبد السلام بنعبد العالي- الاخيرة، اهتمامات جديدة ومسالك تختلف عن معطى الفلسفة التقليدية، في كتابه (الفلسفة فناً للحياة) يضع ممارسات الحياة اليومية وطقوسها المعتادة والخفية تحت المجهر الفلسفي، فتتوهج تحت طائلة الاهتمام المفعل، في محاولة لكسر رتابتها، وجعلها موضع الاهتمام والولع، في التعاطي معها، فتصبح كل ممارسة وجزء في حياتنا اليومية، مصدر امتاع ومعنى اضافي من خلال علاقة ذوقية أليفة مع كل الطقوس اليومية الضرورية والمعتادة ،في محاولة لتخليصها وتنقيتها من الروتين.
وهكذا تدشن الفلسفة علاقة مع الأشياء يتبادل ويتضاعف فيها الاحساس والوعي
معاً.