عندما تقترب من عطاء المبدع الحصيف محمَّد خضير، تشعر وكأنَّك أمام طاقة غامرة من التطلّع، وقوة مبحرة في ملكوت الدلالات المجدية، وعندما تتعمَّق في قراءة نصوصه، يجعلك تذعن لنسق الرؤيا الكشفية من رائق إبداعه الجزل، حين يبني من الصورة الإبداعيَّة عالمًا يقربك من دنياك الجديدة، لتتنفّس شيئا من نسائم الواقع المشرئب إلى سماك بناظره، مستلهما ما بداخلك من النظر السديد.
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
حين يجعل من الصورة المحال ممكنا، ومن الدال الأصلي سهلا ويسيرا، بأفكاره الخلاقة، وبمقدرته الإبداعية الصادقة، وبإبداعه الوامض، الذي يشدّ إليه المتلقي إعجابًا، وتذوّقًا، وتقديرًا؛ أينما حل وارتحل عطاؤه؛ كما في قصتي "الأرجوحة" و"تقاسيم على وتر ربابة"، حيث التطلع إلى الواقع المأمول كأنَّه الفردوس، حين يصور الناس سعداء، على الرغم من السعي إلى تدمير الواقع المعمول، ومحاولة محو الهوية، والإبادة الجماعيَّة بالاستئصال المتعمَّد، وهو ما حاولت "حدائق الوجوه" (2009) رسْمه بما قدر لها أن تحفر تجويفا في القلب، بعلاماتها الدالّة، حسرةً على ما آل إليه الوطن.
يجد القارئ في إبداع محمَّد خضير نصًّا وفيًا للمشاعر - حتى بافتراض مضمرات معانيه - وهي الصورة التي تقيم الحجة على تقلّب الواقع، وتغيُّره، بخاصة حين يجد القارئ في نصوصه الغنيَّة بالمعاني أنّها تصارع المواراة، وتعارك الأشباح، وتقاوم التحدي، وتجابه الظُّلمة التي تتخفى بتلاوين، وأصقاع من صراعات، وتحولات سوداويَّة المسوّغات في نتائجها.
لعلَّ ما يميّز إبداعات محمَّد خضير كونها شعلةً خلاقة؛ بتجربة جديدة، وجذوة متميزة على غير التجارب السابقة لمعاصريه؛ بالنظر إلى تنوّع أساليبه المنفتحة على الإمكانات الإبداعية المختلفة، حتى أصبح حاضرًا بقوة في وعي معاصريه، وهو ما تشهد له: المملكة السوداء (1972)، و"في درجة 45 مئوي" (1978)، رؤيا خريف (1995)، حدائق الوجوه (2009). فضلا عن الجوائز التي حاز عليها؛ ومن هنا تظهر حكمة الإبقاء عليها شاهدة على العصر؛ لعظمتها؛ نظير ثمرة تألقها. ومن هنا تقتضي الحكمة أهمية التواصل مع إبداعه المتألق. ولم يكن ذلك التوقّد بين محمَّد خضير ومتلقيه ممكنا لولا وجود الرؤية الكشفية في تميّز إبداعاته، وقدرتها على التفوّق، وليست العلاقة بينه وبين متلقيه قائمة على التميّز فحسب، وإنّما هي علاقة تسهم في إسماع صدى المشاعر الصادقة، من هذا الصرح الإبداعي الشامخ في مقام محمَّد خضير، الذي كان طموحه علو السّماء، وعزيمته رُسُوُّ الجبال، وعزمه شموخ مدينته "البصرة"، التي بقيَ ملازمًا لها حتى في أحلك الأيام العصيبة، والمحن الجسيمة، فكتب عنها نصّين متميزين في "بصرياثا" (1993) و"أحلام باصورا" (2016)، كما أنّه استعاد في هذين النصّين أحلام المدينة البريئة، مجسّدًا رؤيته فيما كان، وما ينبغي أن يكون لها من مجد.
ما أجمل أن يُذكرَ إنجازُ المبدع الفاطر "محمَّد خضير" بطيبةٍ في كلِّ زمان ومكان، وما أعظم أن يتذكّره محبّوه، وما أليق أن تحتفي به جريدة "الصباح"، وهو أقل ما تستحقه إرادته القوية؛ لتبقى دومًا شعلة في قلب متلقي إبداعاته المجدية، التي لا تنطفئ؛ بعد أن ازدهر العطاء فيها حتى أصبحت قدوة مثابرة.
لك ما تشتهي من التقدير أيُّها المبدع الاستثنائي، لقد كنت بإبداعك المتوقّد - لوعي الجيل الواعد - غيثًا أنت غرسته، وسيبقى هذا الجيل يرعى ما غرسته.
* ناقد من الجزائر