تعد حالة "الزينوفوبيا" في العالم الحديث من أكثر أنواع الفوبيا انتشاراً وتأثيراً في بناء أنماط العلاقات بين الشعوب، إذ شهد العالم منذ بدايات القرن العشرين في الألفيّة السابقة هجرات كثيرة من العالم العربيّ على وجه الخصوص نحو العالم الجديد "أميركا الشماليّة والجنوبيّة"، وخاضوا تجربة صعبة على مستويات كثيرة في سبيل التعايش مع مجتمع مغاير وثقافة مغايرة وحساسيّة مغايرة، لم يكن من السهل التلاؤم معها والانسجام مع معطياتها ومتطلباتها واستيعاب فلسفتها على نحوٍ أنموذجيّ، وكان على هؤلاء المهاجرين اختيار أحد سبيلين لا ثالث لهما.
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
إمّا الاندماج بالمجتمع الجديد، وإمّا التشبّث بالثقافة التي جاؤوا بها وخوض صراع قد لا يكون في صالحهم ضمن الاحتمالات المتاحة، فطالما أنّ المهاجر اختطّ لنفسه طريق الهجرة فلا بدّ من التفكير بالاندماج مع المجتمع الجديد وتغيير المصير، وإلا فلن تنجح مغامرة الهجرة وقد تقود المهاجر إلى ما لا يحمد عقباه.
تمثّل هجرة الأدباء العرب إلى العالم الجديد واحدة من أكثر الظواهر حضوراً في الذاكرة الأدبية والثقافية العربية، حتى أنّها دخلت ميدان الدرس الأدبيّ العربيّ الأكاديميّ فيما عُرِفَ اصطلاحاً بـ"أدباء المهجر"، وكانت قضية الصراع بين الحفاظ على اللغة العربية أو الانتماء للغة الإنجليزيّة على نحو حاسم إشكاليّة مركزيّة في تعاطي أدباء المهجر مع حياتهم الجديدة، إذ ظلّوا متشبّثين بتقاليد اللغة العربية وأسّسوا جماعات أدبيّة مثل الرابطة القلميّة والعصبة الأندلسيّة والنادي الفينيقيّ وغيرها، وكانت لهم صحفهم ومجلاتهم التي تنشر نصوصهم العربيّة بوصفها قد اختطّتْ أسلوباً جديداً في الأدب العربيّ الحديث، على نحوٍ أعاق كثيراً فكرة اندماجهم بالعالم الجديد في الوقت الذي كان بوسعهم ذلك إذ إنّ معظم السكّان في هذه البلاد هم من المهاجرين.
إذا كانت هجرة أدباء المهجر العرب إلى العالم الجديد طوعية بحثاً عن فرص جديدة في حياة أخرى، فثمّة هجرات قسرية حصلت لشعوب المناطق العربيّة هرباً من الموت، وهي هجرات متنوّعة بين بلدان عربية مختلفة وهجرات إلى بلدان أجنبية على طول العالم وعرضه، تطوّع بعض هذه البلدان لقبولهم لاجئين واضطرّت بلدان أخرى لقبولهم بفعل ضغوطات خارجة عن إرادتها، وصارت الهجرة واللجوء بفعل تفشّي الصراعات الدينية والعرقية والإثنية والطائفية في مناطق متعددة من العالم بالغة القسوة، وفي مناطقنا العربية على نحوٍ أخصّ وأكثر عنفاً وشراسة ولا إنسانيّة.
لم تكن لثقافة المهاجِر أو النازح أو اللاجئ أن تتشكّل إلا بفعلِ طبيعة المنظومة الأخلاقيّة التي تتحلّى بها دول اللجوء، وكانت إشكاليّة "العنصريّة" بطبيعتها العُنفيّة هي أبرز ما يعانيه اللاجئ في بلدان بعينها تعاني من مفارقة بين أهداف الحكومات ذات الطبيعة السياسية والاقتصادية والعسكرية المستقبلية، وحساسيّة الشعوب في عيشها المستقلّ بعيداً عن أجندات الحكومات ونظرياتها السياسية، فالأجندات السياسيّة للحكومات هي التي تتحكّم في هذا الموضوع وتمارس ضغطاً على شعوبها أحياناً لقبول مهاجرين أو لاجئين، مما ينشئ رفضاً داخلياً شعبياً مضمَراً وظاهراً للغرباء يثير مشكلات كبيرة في بناء العلاقة بين الطرَفَين. تسهم حضارة الأمة وتمدّنها ونظرتها الإنسانية العامة إلى الآخر في مستوى قبول المطارَد والمهدّد بالموت داخل مساحتها الاجتماعيّة، فضلاً على مجموعة أخرى من الفرضيّات ينبغي البرهنة عليها في ظلّ فكرة التعايش بين اللاجئ والمكان الجديد الذي حلّ فيه، فإتقان لغة الآخر والاندماج مع أخلاقياته واحترام مواضعاته الاجتماعيّة ضرورة لا بدّ منها، وعلى اللاجئ أن لا ينسى أبداً أنّه ضيف –قد يكون ثقيلاً- على ثقافة أنقذته من الهلاك، وأن يؤمن إيماناً مطلقاً على المستوى النظريّ والإجرائيّ الفعليّ في ميدان الحياة الاجتماعيّة أنّه لاجئ وليس فاتحاً، كي ينجح في أن يضيّق مساحة "الزينوفوبيا" إلى أقلّ حدّ ممكن لا يتحوّل فيه إلى نوع من الانتقام الخطير.
إنّ "صورة الأجنبيّ" في بلدان العالم كافة تحظى باستجابات نفسيّة واجتماعيّة وثقافيّة متعدّدة بحسب مرجعيّات كلّ بلد، فقد تحظى هذه الصورة باستهجان أو إعجاب، اضطهاد أو تكريم، استهانة أو احترام، اعتداء أو احتواء، وهي معادلة شديدة الصعوبة والتعقيد لا يمكن معاينتها على وفق معيار واحد مطلقاً، إذ تتموّج بين هذه الاحتمالات دائماً.
لعلّ الوضع الأخطر لهذا النوع من الفوبيا هو تحوّلها إلى مرضٍ مُزمنٍ لدى بعض الناس ممّن لديهم مسؤوليات خطيرة لها علاقة بحياة الأجنبيّ ومستقبله، فقد يدفعه هذا العداء والكراهية نحو حرمانه من حقوقه الطبيعية في بلد غير بلده، إذ يرفض له طلباً مشروعاً في الانتماء لجامعة معيّنة هو مؤهّل لها وتسمح قوانين البلد بحصوله عليها، لكنّ كراهية الموظف تحرّضه على عرقلة القضية والتعامل مع صاحبها بقسوة تجعله يسخط على البلد، وقد ينتهي به الأمر إلى التخلّي عن حقّه حين يجد أنّ وجوده في البلد معرّض للخطر على هذا النحو، فالتغيير الديموغرافيّ الذي تفرضه الجماعات المهاجِرة على مواطني بلد الهجرة ليس من السهل قبوله، من حيث السكن والعادات والتقاليد والبيع والشراء والتملّك والزواج والتفاعل على المستويات كافة، في المدارس والمستشفيات والجامعات والأماكن العامة والأسواق وأنواع الطعام وطريقة اللباس والكلام وغيرها كثير.