ناجح المعموري
إن كل سر من أسرار الطبيعة وحكمة من حكمها، وخبيئة من خبايا النفس الإنسانية وعلاقة من علائق القوى الخفية، قد أبانتها الآلهة الأم في كل جزء او إشارة لبني البشر، عن طريق كاهناتها اللواتي كن منذ البداية صلة الوصل بين عالم البشر وعالم الآلهة، ولذلك لعبت المرأة دور المعلم الأول في تاريخ الحضارة. المرأة أكثر حساً بالخفي والماورائي من الرجل، وأكثر منه تديناً وإيمانا بالقوى الإلهية وأكثر شفافية روحية، لقد كانت سيطرة الأم على الحياة الدينية سيطرة على عالم يموج بالأسرار والخفايا. وهي أم القمح، تهب أهل الظاهر قوت يومهم، وفي المستوى الثاني هي أم الخمر والمستحضرات المخدرة، المستحضرة من النبات، وينقلب لديها الطبيعي والمادي الى روحاني علوي كما قال فراس السواح.
وتفيض أسطورة (انكي وننخرساك) بوظائف عديدة للأم السومرية التي أسهمت بالخلق والتكوين بالتعاون مع الإله (انكي) ولولاها لظلت الحياة بدائية، وفقيرة جداً. لكن المجال الحيوي الذي تتمتع به الأم الكبرى في كل الحضارات هو الذي وفر لها كثيراً من الفرص من أجل أن تكون أماً حقيقية. لذا كان دور الأم السومرية / ننخرساك مميزاً رائداً في الأساطير العراقية القديمة واهم ما يمكن ملاحظته في أسطورة (انكي وننخرساك) هو الوظيفة الإخصابية التي لا يكون شيء في الحياة بمعزل عنها. لان البنية الذهنية الأسطورية في العراق القديم قد ركزت على العلاقة الاتصالية/ البايولوجية بوصفها وسيطاً مهماً من أجل تطوير الحياة وإدامة حركتها. لذا حددت القراءة المستويات المجازية والسياقية الظاهرة في النص/ والدالة على الجنس، كوظيفة أولى منها.
(قدم لها المشمش/ قدم لها التفاح/ قدم العنب الريان/ أوتو تضرب بكفيها على فخذيها/ تصفق فرحا/ تذوقت ثمار انكي/ عانقها وشدها الى صدره/ تلمس فخذيها ربت عليهما/ قبلها ضغط عليها بجسده/ ولج المرأة الفتية وجامعها/ سكب في حضنها منيه/ في حضنها تلقت المني، مني انكي/ صاحت المرأة الجميلة (؟) عند ذلك/ آه فخذاي، آه جسدي، آه قلبي).
تمثل الالهة (أوتو) امتداداً مع غيرها للالهات الأم السومرية وحازت على عناصرها، وخصائصها، وكذلك تبدت صفتها الدينية بالوظائف المعروفة/ والخاصة بالأم، مع ملاحظة وجود تخصص محدد، منحته الأم الكبرى للأمهات الآتيات بعدها، واللاحقات بها، وتظل الأم الكبرى السومرية/ ننخرساك مراقبة لعمل الإلهات ولا تسمح بخلق جديد خارج حدود نظام الأمومة الكبير وعلاقته بالعناصر الإلهية، لذا نجد الأم/ ننخرساك منزعجة من فعل الاتصال على الرغم من قبولها بالذي حصل بين (اوتو) والإله (انكي) وقبل ان يقدم لها المشمش/ التفاح/ والعنب الريان/ لهذا استجابت له وأصدرت شفرات معرفية بدلالتها الجنسية كالضرب على الفخذين وتذوق الثمار. وشعرت الآلهة (أوتو) بالنشوة الغامرة التي لم تشعر بها من قبل ولذلك أعلنت عن بهجتها/ وفرحتها بالمتعة/ واللذة التي منحها الإله (انكي) آه فخذاي، آه جسدي، آه قلبي. شاكست الآلهة الأم (انكي) والإلهة (اوتو) واستخرجت ماء الاله من حضنها، وعطلت بذلك فرصة إمكان محتمل للخصب/ كما قطعت علاقتها بالإله (انكي) لان الآلهة (اوتو) حققت ما تريد وتحلم، وذلك بحيازتها على عدد من عناصر ووظائف حضارية، ودينية خاصة بها وأهمها وظيفة النسج ولم تشأ الأم/ ننخرساك الإبقاء على ماء قلب انكي في حضن (أوتو) واستخرجته لأنها لا تريد لها وظيفة جديدة تزاحم بها وظائفها الامومية الأولى. لان الاتصال الادخالي/ البايولوجي بين الآلهة محدد الوظائف ولا يقبل التكرار إلا بالموافقة، وإذا كان هناك اتصال فإنه يعني وجود ضرورة مهمة لخلق ما هو جديد، تمثل بثمانية نباتات، لم تعرفها الأهوار من قبل. تكشف هذه الأسطورة فاعلية الطاقة الاتصالية ودورها في نظام الخصب الذي تشكل الإلوهة المؤنثة طرفاً فاعلاً فيه.. إن هيمنة إرادة الأم/ ننخرساك، امتداد منطقي للنظام الذي عرفته دولة الكون العراقية لأنه يستحيل وجود عالم منظم/ اذا لم تفرض عليه سلطة عليا إرادتها. والفرد هنا يشعر بأن السلطة دائماً على حق: أوامر القصر كأوامر الإله انو، لا تتبدل، كلمة الملك حق، ونطقه كنطق الإله لا يغيره شيء، وبعد محاولات الأم السومرية/ ننخرساك في إفشال ماء انكي من دوره، تصدى لها بتخليقة للنباتات: (خرج عندئذ انكي من الهور/ وقال لا يسمود حاجبه: أنا لم أقرر بعد مصير تلك النباتات كيف يمكن ذلك؟ قل لي؟ كيف يمكن ذلك؟).
التهم الإله (انكي) كل النباتات، وقضى عليها، وخسرت الحياة عدداً من عناصرها الزراعة الضرورية والجديدة. لم تسكت الأم/ ننخرساك على الذي حصل لأنها معنية بالولادة والخلق الجديد وصمتها. لو حصل فإنه يعني قبولاً يتعارض مع وظائفها الأمومية. وحين أقسمت باسم انكي أعلنت ننخرساك، لن أمنحه بعد ذلك نظرتي للحياة ومن أجل ذلك سيموت.. أصيب الإله (انكي) بثمانية أمراض، ولأنه أكل النباتات تلك. لعنة قاسية للأم السومرية وابتدأ المرض في جسده، عقوبة له وربما سيموت، وبعد تدخل الإله انليل السلطة التنفيذية في مجلس الآلهة، أشفقت عليه، وأخذته وسط حضنها وبالحوار معه، عرفت أمراضه الثمانية: (1. رأسي يؤلمني. 2. ذراعي يؤلمني. 3. أنفي يؤلمني. 4. حنجرتي تؤلمني. 5. فمي يؤلمني. 6. ضلوعي تؤلمني. 7. ذراعي تؤلمني . 8. متناي يؤلمانني).
وخلقت الأم السومرية/ ننخرساك ثمانية إلهات كل واحدة معنية بمرض محدد، كي تنقذ الإله من أمراضه. وليس صعباً معرفة الدرس المعرفي الذي انطوت هذه الأسطورة وبالإمكان الإشارة إليه سريعاً وبإيجاز: لقد تمركز نظام الخصب في البنية الذهنية / الأسطورية العراقية القديمة، وتكرس بحضور فاعل ومتسع بحيث تبلورت عناصر الإلهة الأم، وتحولت مهيمنة/ وطاغية على عناصر الإله (انكي) الذي لم يستطع مقاومة غضب الأم السومرية التي مارست عنفاً ضده. ومن لحظتها أدرك الإله (انكي) بأن مجاله الوحيد/ والصحيح للاتصال من أجل الخصب هو الأم الكبرى/ ننخرساك.
وعبر ثنائية العلاقة بين الأب أنكي والأم ننخرساك، تحولت دلمون المقدسة من مكان قاحل الى بلد فيه شروط الحضارة.