يمكننا أن نطلق على الفنان الروسي سوتين
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
(1893 - 1943)، أنه كان التعبيري الوحيد في باريس، لكنه عكس التعبيريين الألمان لا يندد بأهوال الحرب أو ظروف البلد، بل كان يرسم عذاباته الشخصية من خلال أعماله الفريدة التي تميزت بعجائنها السميكة وانكسارات خطوطها ووجوهها المشوهة.جاءت الخطوة الحاسمة في حياة هذا الفنان حين سافر سنة 1913 إلى باريس، وهناك تعرف على شاغال ومودلياني، وربطته بالثاني صداقة عميقة وكبيرة، لدرجة أن مودلياني قد خلَّده بمجموعة من البورتريهات التي عبّرت عن شخصيته المضطربة والغريبة، وقد ساعدت هذه البورتريهات مؤرخي الفن وكاتبي سيرة الفنان على معرفة بعض أسرار شخصيته. في باريس، خطا هذا الفنان بخطواته مباشرة نحو مشغل الفنان فرناند كورمون لأخذ دروس إضافية في الرسم كما يفعل شباب الفنانين آنذاك، لكنه بسبب شخصيته الصعبة ومزاجه العنيف المليء بالسخرية لم يستطع إكمال الدروس (كما فعل قبله فان خوخ في ذات المرسم). وهكذا قرر هذا الرسام الذي جمع في شخصيته بين المأساة والفرح والمعجب بالشاعر بودلير والموسيقي باخ، أن يكمل الرسم وحده ويطور مهاراته من دون أستاذ وبلا دراسة.
لوحاته تغلي وهو يتلاعب بملامح الوجوه ويشوه الأشكال ويبالغ في حجومها لأجل إظهار التعبير المناسب ومنح الأشكال لمسة حسية مؤثرة، إذ تنعجن ملامح الشخصيات مع طيات الملابس والأيدي والخلفية لتنتج قوة بوهيمية مذهلة.
مرَّ سوتين سنة 1920 بنوبة من الحزن والكآبة بسبب موت صديقه المقرب مودلياني وبدأ برسم لوحات مليئة بالحزن والتراجيديا، وقد قارن بعض النقاد هذه الأعمال بأعمال الفترة الزرقاء لبيكاسو ووضعوها بخط موازٍ لها.
وقد استمرَّ هذا الرسام الغريب والعنيد برسم لوحاته التي تشع دراما وقوة تعبيرية، وكان يبيعها مقابل 30 فرنكاً وهو يعاني في سبيل الحصول على الطعام أو الشراب، لكن شيئاً فشيئاً أصبحت باريس تعرفه وتعرف أعماله التي أصبحت أسعارها 470 فرنكاً للقماشة الواحدة، وهذا شيء كبير في ذلك الوقت لفنان بوهيمي مثله، وبالرغم من أن النقود ملأت جيوبه الفارغة، لكن معدته الفارغة أيضاً من الطعام بدا عليها تأثير الكحول الرخيصة التي كان يحتسيها. وكان التحول الكبير في حياته حين اشترى المليونير الأميركي ألبرت بارنس 52 لوحة من لوحاته وأخذها معه إلى أميركا، وهذه الأعمال أثرت تأثيراً كبيراً ومباشراً في التعبيرية التجريدية ورسامي مدرسة نيويورك أمثال بولوك ودي كوننغ وغيرهم.
توفي هذا الفنان الرائع في باريس بسبب القرحة وتمزق في المعدة، ولم يكن في جنازته أحد سوى أربعة أشخاص ظهروا من كنيسة مونتبارناس، وهم حبيبته ماري كارده وبيكاسو وماكس جاكوب وجان كوكتو، هؤلاء الذين عرفهم وعرفوه جيداً، فتحوا باب الكنيسة وخطوا خطوات بطيئة تحت شمس باريس وهم يلوحون لنعشه ويودعون روحه المعذبة.
هكذا رحل هذا الرسام، تاركاً خلفه لوحات أثرت في فن القرن العشرين وتتسابق عليها المتاحف.