أغلب مداخل الفلسفة تعرفها على أنها (البحث عن الحقيقة) أو هي (علم المبادئ) أو (علم العلل)، وهي في أصل تكوينها محاولة علمية لمعرفة أصل الوجود أو العالم، وهذا مبحث نظري خالص، ولكن فلاسفة ما بعد الحداثة حاولوا تخليص الفلسفة من ركونها للتجريد ليبحثوا عن قيمتها في الجانب الآخر منها، ألا وهو الجانب العملي، وتداخلها في الأخلاق والسياسة وتدبير الحياة الاجتماعية، بل وفي ما سُمي (لواحق الفلسفة)، مثل فلسفة القانون، وفلسفة الطب، وفلسفة العلوم النظرية مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء والبايولوجيا، والفلسفة التطبيقية.
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
ليس بغريب على الفلسفة أن ترتبط بالعلم، كما ليس بغريب عن العلم أن يرتبط بالفلسفة، ولنا في تاريخ الفلسفة ما يُثبت ذلك، فأغلب فلاسفتنا القدماء هم علماء، لا سيما في الفلسفة الكلاسيكية: اليونانية والوسيطة، الإسلامية والمسيحية. وكذا الحال مع العلماء، فكثير منهم فلاسفة، أو لنظرياتهم أبعاد فلسفية، ولا أجتاج لأثبت الواضح في هكذا معلومة.مع كل ما قيل ويُقال عن تعقيد الفلسفة وصعوبة مباحثها، لكنها بقيت وما زالت تقاوم كل محاولات اقصائها من فضاء التداول العام وتصوير الفلاسفة على أنهم من جنس آخر مختلف!.
قيل عن سقراط إنه {أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض}، وعلى ما بين سقراط والسفسطائيين من اختلاف في المنهج والرؤية، لكن السفسطائيين جعلوا من الفلسفة منهجا لفهم وتفسير الحياة، ومعنى الحياة هنا لا تعني الانشغال بتفسير أصل الوجود، بل الانشغال بالموجود وهو (الإنسان)، لذا فالفلسفة منذ نشأتها الأولى هي علم مؤنسن وإنساني، غايته خدمة الإنسان والارتقاء به وبمعارفه.
من مآثر أقوال (غاستون باشلار) هو {إن تاريخ العلم تاريخ تصحيح أخطاء}، وذات مرة ذكر لي أستاذنا مدني صالح أن قيمة أرسطو ليس بما قدمه من فلسفة نظرية، بل الأهم منه أن {أخطاء} أرسطو (الفيلسوف العالم) صارت بمثابة عتبة لبناء نظريات علمية جديدة.
كل ما يُميز تاريخ التحولات الكبرى في الفكر هو وجود مفكرين وفلاسفة كبار، فلك أن تكتب عن "النهضة"، فتجد الفلسفة حاضرة ومؤثرة في تهديم مسار واستحداث مسار آخر، وقد تكتب عن (الما قبل والما بعد) في تاريخ الفكر، وسترى أنه تاريخ أنتجه فلاسفة كبار أمثال ديكارت ولايبنتز واسبينوزا وفق رؤية تنتمي للفلسفة العقلية، بل وفرنسيس بيكون ولوك وهيوم وفق رؤية
تجريبية.
تحدث عن {الأنسنة}، وتوغل في أصولها المعرفية لتصل فيها لابن رشد الذي فتح أفق التنوير للمعرفة ببعدها العقلاني، ومسكويه والتوحيدي ببعدها المعنوي الذي كشف عن محمد أركون في أطروحته للدكتوراه.
لم يكتب رينان كتابه الشهير (ابن رشد والرشدية) إلا لأنه عرف أن هناك {فلسفة يونانية كتبت بحروف عربية} صاغها فلاسفة العرب لتكون قلادة يتزين بها الفكر الغربي ويدعي رينان وغيره من المفكرين المنكرين للأصالة الفلسفية العربية على أن {الفلسفة بضاعتهم رُدت إليهم}!!، وكم جميل عند العرب ما تميزوا فيه من وفاء أنهم فهموا الفلسفة اليونانية وأعطوها حق قدرها، وصاغوها برؤية فهمها الغرب، وتلك ميزة تُحسب لفلاسفتنا العرب أنهم قدموا للغرب ما يظنون أنها فلسفتهم برؤية شُرّاح فهموا القول وصاغوه بأجمل صياغة، فالذهب ذهب وإن كان في منجم، ولكن الشاطر الذكي هو من يُجيد صياغته.