منذُ أن بلغت البنى الأدبية للفرد العربي معاييرها الدالة واشتراطاتها المحكمة كان الشعر هو الهوية المقترحة والواجهة الأوفر حظاً في المواجهة والتعبير عن الحياة بمحتواها الانساني ومضمونها الجدلي الذي يشكل الانتماء والمعتقد على اختلاف واختلال المراحل الزمنية المضطربة سياسية كانت أم اجتماعية
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
فهو المرجع التاريخي الذي يختزل دهراً بأزماته وفتوحاته ونكباته ببيت واحد وما يتعداه ليؤرخها كوثيقة شفاهية متداولة، فالعرب أمة شعر وهذا طرح لا خلاف عليه ولا سبيل آخر لمناقشته.
وما وصلنا من المهلهل إلى آخر شاعر مستقل بذاته ومشغله بعيداً عن الشكل الشعري الذي يتبناه، ما هو إلا دلائل وبراهين تنم عن مدى رسوخ هذا الجنس الأدبي في مجتمعاتنا.
وعلى امتداد فترات متعاقبة معبأة بالصمت والصراخ بزغت ظواهر عديدة لها ماهيتها وغرضها، منها ظاهرة الشاعر الصعلوك والأدلة كثيرة مثل (تأبط شرا) الشاعر الجاهلي إلى عصرنا الحديث كحسين مردان وعبد الامير الحصيري ومحمد الماغوط، إذ شكلوا حالة قلقة في مجال البحث والتقصي لما يحملونه من حياة صاخبة مليئة بالكد والشرود.
وهو بيان لحالة المجتمع الذي أفرز مثل هذه الظواهر وأسس لها على اختلاف المراحل المعيشة، أي أن الصعلكة باتت مرافقة للشاعر لا تغادره بل لا تأبى الفكاك منه كصفة ملازمة له نمت وكبرت واوجزت مدلولاتها النسقية، وهذه من بواعث الأرض الأولى التي شكلت ذهنيتنا من دون أن نتوقف عندها ونحاور كنهها.
لكننا الآن، أمام سؤال يفضي إلى اضاءة بعض من الحتميات والآراء القطعية المعتمة التي لخصتها طبيعة الجزم المتعارف عليه عند أهل الطرح، وهو: هل ثمة قاص صعلوك أو روائي صعلوك أو حتى ناقد له ما له من السياقات الضاجة في سلوكه الحياتي ليغلب عليه طابع التمرد والخروج من النوافذ المستبعدة عوضاً عن الأبواب الحياتية الفارهة؟.
بطبيعة الحال، وأنا غير ملزم بهذه الاشكالية أن جنسيّ القصة والرواية انضما حديثاً إلى المشهد الأدبي العربي واستقبله مريدوه بحكاياتهم المتأنية ليمهلهم الوقت مسالك الطريق مأخوذين بدربة البحث والتقصي عن هذا الشكل ليزاولوا غوايتهم من خلاله، مما عضد بظهور أسماء ذات أهمية بالغة استطاعت أن تشيّد لها مشغلاً عامراً يشار له بالبنان بكل المقتضيات المضيئة والمعتمة التي مرت بها بلداننا العربية.
وهذا يسهم بشكل فاعل في إماطة اللثام عن وجه الادب المنافق أو المجامل مهتمين بأن يظهروا ملامحه الحقيقية المتضمنة واقعه الآني، من الواضح أن الصعلكة ارتبطت بالشاعر وما أعنيه بمفهومها الظاهر بعيداً عن قصدية المخبوء، لكننا لم نسمع بأن هناك سارداً صعلوكاً افترش الطرقات وراح يعطي لنا رائياً مختلفا من ناحية النظرة المتبعة والسائدة التي خصّت عالمه المطمئن، وأنا اتحدث عن الذين لهم ثراؤهم الجمالي من كتاب السرد، برأيي أن هناك مسببات تعنى بطبيعة الاديب الشاعر أو الاديب السارد، وما يتخلله من أنساق لها اثارها وبوادرها التي تشكل وعيه مجترحاً لنفسه مساراً يستطيع أن يجد ذاته مهتمةً بتشييد مشغله الأدبي بتوابعه النفسية واختلاجاته التي تحفزه للكتابة، ومما لا شك فيه أن ثمة عوامل عدة تشترك في ذلك كالتأثر والبيئة التي انطلق منها لتسهم في تكوينه السيكولوجي مجتمعة في ذات الاديب، فيوثقها في مادته وكأنه يؤرشف لأناه أو لعله يشير لواقعه من خلاله، من الملاحظ أن السرد يحتاج إلى هدنة وتأمل أكثر من أي جنس آخر بحكم المراحل المتبعة في بناء المتن السردي مفصّلاً إياه بعلائق تحدد الثيمة الاساسية للنص بالدخول وطريقة العرض والأواصر المتبعة لشد القارئ مروراً بالذروة ولحظة الاتقاد فالخاتمة، وهذه تحتاج إلى كياسة في تسلسل الرؤى وهدنة في إيضاح السياق المتبع مسترسلاً في حكايته بروية من دون أن تسقط أو تهمل حلقة من النص، وهذا الديدن ينطبق مع الناقد على وجه الخصوص بل يتقمصه أيضاً، فالناقد يحتاج إلى الغور والغوص في التفاصيل الصغيرة وإن كانت تنزاح نحو الهامش لكي يستطيع التحليل وفق منهجيته المعنية؛ لذا يجب عليه أن يكون مستتباً مع ذاته أولاً وأخيراً ومستقراً قدر المستطاع ليخوض في مجريات تفكيكه للنص وفق مناهج علمية لا يخالطها الشك أو تطالعها المجانية.