مما يميز الخطاب الشعري عن غيره من أنواع الخطاب الأخرى أنّ المعنى فيه يكتسي حلة جديدة ذات خصائص جمالية مختلفة يسهم في تشكيلها عدد من الآليات والتقنيات التي تجعل من الإبلاغ وظيفة ثانوية، أما الامتاع والتأثير فتكون الوظيفة الأساسية التي تجعل المتلقي يتفاعل مع النص وينفعل مع معانيه وصوره، وفي ديوان «دوران» يحاول الشاعر جاسم العلي الابتعاد عن المباشرة
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
من خلال الإيحاء بالمعنى بالاعتماد على المفارقات التي يخلقها الانزياح لتجعل المعنى مكثفا ورمزيا أحيانا، فضلا عن التحولات على مستوى بنية النصوص والتقنيات الأسلوبية مما جعله يبتعد عن النثرية المباشرة والميل الى اللغة الرمزية احيانا ذات الدلالة الموحية. وتتسم الجمل الشعرية في
نصوص “دوران” فضلا عن التكثيف بالانفتاح الدلالي الذي يعبر من خلاله الشاعر عن رؤيته للواقع بكل ما يحمله من انكسارات تجعله يدور في حلقة مغلقة،
وهذا ما يحيل اليه عنوان الديوان الذي قسمه الشاعر على ثلاثة دورانات، فضلا عن القصيدة الأخيرة التي حملت العنوان نفسه،
وقد ضم الديوان (52) قصيدة منها (28) قصيدة ومضة، جاءت أشبه بالتغريدات يقوم المعنى فيها على التكثيف والمفارقة إذ
يقول في قصيدة.
(ظل عينيك):
ككل العاشقات بعينيك،
الماء حبات مطر
عالم يطفو بالأسرار
والظلال أمنيات.
فالشاعر هنا يعبر عن أسرار الحياة والقلق والحيرة والانتظار للأمل، من خلال المفارقة الدلالية التي تتشكل بالانزياح في اسناد الفعل (يطفو) الى (عالم)، فضلا عن التقابل بين صورتين تشبيهيتين شبه في الأولى الدموع (الماء) بحبات المطر، وهي صورة حسية تقابلها صورة ذهنية تتمثل بتشبيه الظلال بالأمنيات، لتشكل معنى الحيرة والانتظار
والقلق بصور شعرية ذات دلالات رمزية موحية بعيدة عن المباشرة، فهو يرمز بالعينين الى الأمل والخلاص وهذا ما يحيل اليه عنوان القصيدة بوصفه عتبة تحيل إلى متن القصيدة، وهذا ما تؤكده الجملة الاخيرة من القصيدة (الظلال أمنيات)، فالعينان امنيات يتطلع لها الشاعر والظلال القلق والحيرة التي تجعله يدور حول فكرة الخلاص، وهذا ما يؤكده الشاعر بشبه الجملة (بالأسرار) فضلا عن كلمة (عالم) التي تحيل الى الواقع الذي يعيشه الشاعر بما يحمله من أسرار تبعث القلق والحيرة، ويتكرر ذلك في قصيدة (ادراك) التي
يقول فيها:
ما من ضوءٍ يدرك أبدًا
شحوب الفجر الشارد
بأقاصي الكونِ
كشيخوخةِ قصيدة
تندسُ بالظلِ عيدًا
فالظلال تتحول هنا الى ظلام دامس لا تتحقق فيه رؤية الأفق بما يحمله من أمانٍ، وهذا ما يحيل إليه أسلوب النفي الذي يوظفه الشاعر في مطلع القصيدة (ما من ضوءٍ يدرك أبدًا) وتأتي كلمة (أبدا) لتنهي تماما الأمل الذي يرمز إليه الشاعر بـ (الضوء) ليصبح عنوان القصيدة (ادراك) رغبة من الشاعر في التشبث بالأمل، فالمعنى الذي يعبر عنه الشاعر قائم على ثنائية (الأمل واليأس)، فمعجم الأمل يتشكل من مفردات (ضوء، الفجر، الكون، قصيدة، عيد) أما معجم اليأس فيتشكل من (النفي، أبدا، شحوب، أقاصي، شيخوخة، تندس) وهذا التقابل والتضاد بين المعجمين يخلق مفارقة، والجمع بين المتناقضات في القصيدة، يعكس حالة القلق والحيرة فالظلمة والضوء لا يجتمعان لأن كل منهما ينفي الآخر، ومما يعزز ذلك المفارقات التي يشكلها الشاعر من خلال
إضافة (شحوب) إلى (الفجر) ووصف (الفجر) بـ (الشارد)، وإضافة (شيخوخة) إلى (قصيدة) واسناد الفعل (تندس) إلى (قصيدة)، إذ تحيل هذه المفارقات إلى الفكرة المكثفة التي قامت عليها القصيدة المتمثلة بالقلق الوجودي وجدلية الأمل
واليأس.
وهذا التوظيف للمعنى بطريقة شعرية تحقق الجمال والتأثير وتقوم على التكثيف والايحاء، والتعبير عن القلق والانكسار لا يقتصر على قصائد الومضة بل شمل القصائد الطويلة وهذا ما نجده في قصيدة (دوران) التي
يقول فيها:
لا الضفاف تتسع المدى
ولا المدى يتسع الحنين
هي الأرض بصمتها نقطة امتلاك الضوء
من فراغ الكون..
وفراغ الكلمات
نسافر مع الضوء..
مع الريح خلف المطر..
مع الأسلحة المدفونة فينا
قائد الرغبة كأس فارغ
طقس لشموع النهار
والخطوات الخارجة من المطر
غير مبالية..
تتأرجح كمراكب غارقة
تحفر في العتمة السحيقة
إذ يحيل العنوان إلى حالة القلق والحيرة التي هيمنت على معظم قصائد الديوان، وما يعزز ذلك التوظيف
الواسع للتضاد الذي يخلق مفارقات تعكس الحيرة التي يعيشها الشاعر وهو يتأرجح بين الأمل الذي يعبر عنه من خلال معجم شعري يتمثل بـ (المدى، الحنين، الكون، الضوء، الكلمات، المطر، النهار) ومعجم اليأس المتمثل بـ (النفي، فارغ، الأسلحة، المدفونة، غارقة، العتمة، السحيقة)، فهذه المفردات هي علامات تتحرك داخل النّص الشعري وتحيل الى
علامات اجتماعية في الواقع وتأتي الصور الشعرية التي تتشكل بالتشبيه والاستعارة لتعزز فكرة الشاعر، التي يتدبرها المتلقي لأنها تنبع من الشاعر والنص والمتلقي، عندئذ يعيش المتلقي الحالة التي عبر
عنها الشاعر. وبذلك تكون قصائد ديوان (دوران) قد جاءت متضافرة تعزز بعضها بعضا في ما عالجته من معانٍ مكثفة، اعتمد فيها الشاعر على المفارقة الدلالية، إذ يحوّل الأشياء من إطارها الحسّيّ الى الإطار الذهني الذي يتطلب التأمل للوصول الى الدلالة المقصودة من خلال الاعتماد على التّكثيف والإيحاء والرمز وإعمال العقل
والوجدان.