ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
بدءاً أريد الإيضاح أن هذا المنجز قرأته سابقاً قبل أن يتم إعداده على هيئة كتاب، ولكنني أعدت قراءته مرات عدة لما أحدثه فيَّ من أثر، ولغرض الكتابة عنه بطريقة موضوعية، وكان أول اشتغالي فيه يتناول الغلاف الذي وشح بياقة قميص معلق فيه حبل مشنقة يتدلّى منه منتهياً بعقدة سميكة تحيطها دائرة بحجم الرأس كالتي نلاحظها عادة في حالات الإعدام، ولا يخفى أن لوحة الغلاف تجعلنا نقف وجها لوجه أمام الإحساس بمرارة الحدث بما تحمله من دلالة تتضح لنا عند قراءة المتن وهو يضع بين أيدينا نهاية محتومة لبطل السرد الذي قدمه لنا المؤلف بأبهى صورة وهو يُعدم ظلماً، وقد انتصف الغلاف منذ الياقة بشريط اسود عريض كتب عليه بالأبيض عنوان (دروس في العذوبة والعذاب) وفي أسفله اسم المؤلف الذي هو القاص والصحفي (حسب الله يحيى)، وهنا تجدر الاشارة الى أن العنوان غلبت عليه الصفة التعليمية كالتي وسمت النص النثري العراقي منذ نشأته عندما تحمل عبء النهضة المجتمعية وغلبت عليه ارهاصات التيار الواقعي في كتابة القصة والرواية في عشرينيات القرن الماضي، وما يلفت الانتباه ايضاً أن الكاتب قام بتجنيس اشتغاله على أنه سيرة، وقد وضعت كلمة سيرة على شريط صغير يتدلى في أعلى يمين الغلاف، وإن ما نقرؤه لا يمكن لنا ضمه إلى السيرة الأدبية انما يمكننا عده أحد الأشكال الأدبية التي هي على صلة بالسيرة كاليوميات والمذكرات والاعترافات وما تم طرحه في هذا الكتاب يصب في مصب الذكريات التي هي «نوع من العمل الأدبي الذاتي، يكتبه المؤلف عن حياته أو حياة شخصية فذة ذات مقام بارز، ويتبع الأديب في كتابة المذكرات إما على تسلسل الأيام وإما بشكل متتابع لأهم الأحداث ولا يكتب فيها إلا ما هو ذو أهمية، يبرز قضية، ويوضح مشكلة من مشكلات العصر الذي يعيشه، وقد يتوقف عند شخصية أثرت في عصره»*، بينما تغطي السيرة الذاتية جميع أحداث حياة الراوي أو من يكتب عنه في الترتيب الزمني على هيئة حياة كاملةبتفاصيلها.
إن ما قدمه (حسب الله يحيى) في هذا الكتاب من قيم إنسانية ومبادئ ترسخ عقيدة الحزب الشيوعي من خلال شخصية مهمة فيه وهو (وعد الله يحيى النجار) يذكرنا بما رصده الناقد والكاتب الانكليزي (رايموند وليامز) في كتاب (الريف والمدينة)، إلّا أن الأول قدم فكر حزب على لسان فرد اعتنق مفاهيمه وآمن بها وجعلها صميمية في حياته، ويقدم الثاني تغير المفاهيم ما بين الريف والمدينة في قرنين مختلفين، ولو رجعنا لقضية الفرد الذي ينسج من خلاله حسب الله يحيى منجزه النثري فإننا سنلاحظ أنه لا يمكن لنا أن نجد مثله من يتبنى ذلك في الوقت الحاضر لو انشأنا مقارنة بهذا الخصوص على الرغم من أن الكاتب لا يعقد أي مقارنات ولكننا ندرك عندما نقرأ النص ضرورة الرؤية بعين شاخصة عبر الاجيال لشخصيات لها وقعها وعمل موازنة بينها وبين ما نراه في الوقت الحالي، بل يجبرنا على الاصغاء لذلك الصوت المملوء نبلا وصدقا وهو يكتنف السرد بصورة خفية لا يتلمسها إلّا من أحدثت فيه هزة وجدانية كبيرة إزاء ما يتم طرحه من معانٍ سامية ونفوس عظيمة تتخلله، بينما كان وليامز يعرض في كتابه قصة التحول القيمي في المجتمع الإنكليزي في الفترة بين القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كما عبر عنها أساطين الرواية الإنكليزية أمثال تشارلز ديكنز وتوماس هاردي، ويشير فيه وليامز الى ذلك التحول في القيم من خلال التركيز على الانتقال من المجتمع الريفي بقيمه التقليدية والحميمة إلى مجتمع المدينة المفتوح بقيمه المادية الجديدة، بالمثل ينقل لنا (حسب الله يحيى) من عالم اخيه المناضل اليساري قيم العطاء والتضحية والحب، فضلا عن الرؤى والمواقف الشخصية والمعاناة لأسرة ذلك المناضل الشجاع والثوري الذي كان يحمل نضجاً مغايراً سواء على مستوى التجربة الشخصية له أو على مستوى ما يحاول زرعه في ذهن أخيه من مدركات صنعت منه ما يجعل له موقفا من الحياة وما يعتقد به وما يقبله أو يرفضه على أرضية صلبة عبرت عن قدرة ليست جديدة على الكاتب في عرض مشاهده بتسلسل منطقي وقدرة على رسم صورة دقيقة وواضحة لدقائق الأمور بلغة أدبية ميسرة ومفردات منتقاة غير قابلة للتأويل بما تحمله من تشخيص للأحداث وترك مساحة كافية للمتلقي كي يتخيل ما طبع في ذهنه ووقف شاخصاً أمام ناظريه وهو يتأمل اولئك الذين يتألمون بصمت ويقدمون التضحيات من دون انتظار ثناء من أحد، وعندما نقرأ عنهم نشعر بهم ينتمون إلى عالم شبه مفقود تشكله قيمتا الوفاء والتضحية وتلك الكتابة واحدة من مهمات الأدب المقدسة في كل زمان ومكان.
الهوامش
المعجم المفصل في الادب، محمد التونجي، 1/777، 778.