يلجأ الشاعر لمجاورة المعنى بصورة قريبة منه، ويكون بين الصورة والمعنى المراد مشترك ذهني رابط ، لكي يتمكن الشاعر من إيصال رسالته إلى المرسل إليه من دون مباشرة في البوح . ويحقق بهذا ما يميز بوحه عن الكلام المباشر ويجعله ينماز بالشعرية بحكم وجه الشبه بين صورتين ، إحداهما حقيقية والثانية مستدعاة لغاية في نفس الشاعر، وبهذا يحقق غايتين، الأولى تكمن في إيصال رسالته مغلفة والثانية تفوقه على غيره في الصنعة لتحقيق أقصى غايات الجودة والتميز.
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
في معلقة عنترة العبسي، وتحديدا في بيتين منها خرجا عن نسق القصيدة خروجا مخاتلا لا يلمسه إلا من يتمكن من قراءة كل ما يحيط بالشاعر وما يخضع اليه من مؤثرات نفسية واجتماعية؛ يتجلى الباعث النفسي على خدود البوح الشعري ليرسم لنا صورة نفسية ثقافية؛ ولأنه لا صورة من دون لون ، وبصورة أدق ، لا صورة شعرية من دون تخييل يلون البوح الشعري ؛ ففي بيتين من الشعر قالهما عنترة العبسي في معلقته ، مارس اللون ضغطه النفسي اللذيذ بكل عنفه، على الشاعر عنترة العبسي ليقول مخاطبا حبيبته عبلة :ولقد ذكرتك والرماح نواهلُ
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المبتسم
وقد دار البلاغيون والنقاد حول هذين البيتين، ووقفوا عند البرق واللمعان لكنهم لم يتفحصوا باطن المعنى وغايته، ولم يبحثوا في الباعث النفسي لهذا البوح
الملون .
إن أول لون يواجهنا في البيتين هو اللون الأبيض، (بيض الهند) والبيض هنا هي السيوف، والهندي كان أفضل السيوف عند العرب، لكننا نجد ضاغطا نفسيا حين يود عنترة العبسي تقبيل السيوف لحظة لمعانها، فلماذا يقبلها وما علاقتها بعبلة ؟
هنا يحضر اللون الأسود بقوة، ولا يهمنا إن كانت المعركة قد حدثت ليلا أم نهارا، لكن تقبيل السيوف حدد لنا وقت المعركة بدلالة اللون المقرون ببارق ثغر عبلة
المتبسم .
لقد اعتاد العرب الإشارة إلى الابتسامة بدلالة الاسنان، فيقولون في الدعاء : اضحك الله سنّك ، وهنا تحديدا، يتوحد لمعان السيوف وأسنان عبلة بدلالة اللهفة إلى التقبيل التي أثارها لمعان بيض الهند .
فلماذا احتدمت الرغبة في التقبيل في هذه اللحظة تحديدا؟ الجواب ، لا شيء يلمع في معركة ليلية غير السيف، ولا شيء يبرق في حبيبة الشاعر، ضمن موروثه الإجتماعي، لأنه أسود البشرة، وتعايش مع لمعان وبريق الأسنان في ابتسامته وابتسامة قومه، لذلك وإن كانت (عبلة) ليست سوداء البشرة بحسب الروايات، فإن عنترة لا يعرف بحكم بيئته وحياته التي عاشها ،شيئا يشبه البريق واللمعان غير لون الأسنان لدى الذين بشرتهم سوداء، لذلك ، وفق ما جبل عليه، تذكر أسنانها، وهذا لا يعني أنها سمراء أو بصورة أدق سوداء البشرة فلا يضيء فيها غير ابتسامتها، ومن يدري ربما تكون كذلك؛ لكن الشاعر غرف الصورة الشعرية مما أدمنه في حياته، فصار بياض الأسنان ولمعانها عقدته.
لقد عوض الشاعر عن عقدة جلد اللون الأسود له بجمالية ما يحب في حبيبته ، وحقيقة البيت هو اشتياق مشخص بألم المعاناة من اللون وقد غطى عليه عنترة العبسي ببارق ثغر حبيبته الأبيض ليمارس نسق التعويض بحيلة بلاغية رائعة.