ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
في شبه عقد اجتماعي استمر الى اليوم، لم تنصف المجتمعاتُ الانسانية الفلاسفةَ والشعراءَ والفنانين وسواهم، من المشتغلين بحقول الفكر والمعرفة، وإلا كيف طالت التهم بإفساد عقول الشباب، والزندقة، وعدم الإيمان، والوثنية سقراط، وقد أدين، وحكم عليه بالإعدام، ومثله فعل حاكم أثينا المستبد ديونيسيوس الكبير بإفلاطون، بعد أن إستاء من أفكاره، وقال بأنها خطر على المجتمع، هو الذي أمر ببيع أفلاطون في سوق النخاسة.
وفي شرقنا العربيّ يموت امرؤ القيس، مرتحلاً من حضرموت الى الاناضول، بعد خوار جسده، الذي أنهكته الآمال والحروب، في الرحلة الأسطورية تلك، وقد ارتدى حُلّة الذهب الموشاة، والمنقوعة بالسَّم، الذي أسرع اليه، وأسقط جلده، فهو ذو القروح، ومثله حمل بيده الشاعر طرفة بن العبد، كتاب مقتله، مرسلاً من الملك عمرو بن هند، الذي كان نديمه، وكذلك كان حال المتنبي، الذي قتل بواسط، في غواية المبارزة، ووهم البطولة، تلك، التي قتلت شاعر روسيا العظيم بوشكين، ولم يسلم منها شعراء وروائيي روسيا، فهذا باسترناك- المنتفض بغابة الثلج - بتعبير محمود البريكان، يموت منفياً، وهكذا كانت طلقة رأس مايكوفسكي، ابن الثورة البلشفية، وذاك يسينن يقطع شريان يده في نادٍ ليلي، وتلك اخماتوفا، جميلة جميلات روسيا، تموت محجورة في بيتها، وهذا اوسيب ماندلشتام يقبض عليه مرة أخرى، ويحُكِمَ عليه بالسجن، ليموت في معسكر بالقرب من فلاديفوستوك.
ولم يكن حال بدر شاكر السياب إلا كحال هؤلاء، متنقلاً من سرير أبيض الى آخر أبيض أيضاً، في رحلة العذاب التي أحكمت نهايته، وكذلك كان مقتل محمود البريكان، ففي الوقت الذي أطالت عربة الشرطة وقوفها عند تمثال الدكتاتور، كانت السكاكين قد انتهبَت الجسدَ الشاعر. أليس بودلير هو من يقول: أنا الجرح والسكين، في اشارة الى الحياة، التي لم تكن ملائمةً لروحه، ذلك لأن الحياة الحقيقية غائبة، بحسب العابر الهائل أرتور رامبو، وهو ليس من العالم بشيء. ففي حديثه عن فان جوخ يقول انتونين آرتو: الذي خرج عن السياق العام ليس هو الانسان، بل العالم.
مَنعَ محمودُ عبد الوهاب، القاص والكاتب عُوّدَهُ من زيارته في مرضه، الذي مات فيه، لأنه لم يشأ أنْ يُطلعهم على ضيق منزله، حيث يسكن، وقد عجزَ عن إخلاء غرفته من قناني الخمرة الفارغة، التي امتلأت بها، لذا، آثر أن
يموت في المستشفى بين يدي تلميذه النبيل محمد خضير.
يتحدث انتوني هوبكنز، السير، والممثل الكبير عن القطعة الموسيقية التي أخفاها مدة ست وعشرين سنةً،
قبل أنْ يتحدث مع أندريه ريو بشأنها، كان خائفاً، متردداً من أنها لن تكون جميلة، كما شاء لها.
الكون لم ينصف مفكراً، على الاطلاق، لذا لم يقدم فان جوخ على وضع نهاية لحياته إلا لأنَّ الضمير العام اجتمع على دفعه اليه، من أجل معاقبته، لأنه انشق عنه. فبحسب آرتو فإنه كان يهرب من موجات جنونه العالية الى سنابل القمح.