في بعض الأحيان يأتي الشعر شارحا، موضحاً، وهو بوظيفته هذه ينشغل ببنائه اللغوي وإيقاعه، أكثر من انشغاله بالتشبيه والمجاز، ففي مطلع قصيدة أبي الطيب المتنبي: (على قدر أهل العزم تأتي العزائم/ وتأتي على قدر الكرام المكارم/ وتعظم في عين الصغير صغارها/ وتصغر في عين العظيم العظائم).. لم يخبرنا أبو الطيب سوى بالحقيقة، وهي عقد ثقافي/ ذهني بينه وبين المتلقي؛ بينما اكتفت البلاغة بأن تسمي هذا النوع من البوح الشعري، بشعر الحكمة، بعد أن فتشت عن الاستعارة والتشبيه والمجاز، فلم تجد شيئا من ذلك. وقل مثل ذلك في مطلع آخر من قصائد المتنبي، هو: أفاضل الناس أغراض لدى الزمن/ يخلو من الهم أخلاهم من الفطن. ليس سوى الحقيقة، حملها الإيقاع وحببتها الموسيقى، ولا جواب في البلاغة عن فنية هذا البوح؛ لكن النقد الثقافي له أن يجيب عن أسئلة ماتت في سجن غرضية الشعر؛ ولعل أغراض الشعر كلها تجتمع أحيانا في قصيدة واحدة للمتنبي، وهو ما عجز النقد الفني وأهل البلاغة عن مجاراته ومحاكاة اسئلة الشعر المفتوحة دائما.
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
من هنا صار لنا أن نجترح الصورة التوضيحية، بصفتها واحدة من فن التصوير الثقافي، الذي يغرف ألوانه من بئر ثقافة الشاعر ومحيطه؛ والصورة التوضيحية أغلبها تنتمي الى اعلامية الشعر تلك الاعلامية التي وضعها النقد القديم والبلاغيون في خانة المدح، وقفلوا الباب عليه بقفل رصين من التلقين اليومي، ورموا مفاتيح التفكير بعيدا عما اقترحوه وأوجدوه كي لا يدخل من له المقدرة على فك خيوط الاشتباك التنظيري، وتسمية الأشياء بمسمياتها التي تقترب من حقيقتها وتدل عليها. في الأبيات الثلاثة آنفة الذكر، لم يدخل أبو الطيب للمدح مباشرة، فهو يحمل أوراق اعتماده للمتلقي ويحاول إغراءه، ثم يوقع معه عقدا للتواصل؛ لذلك دخل من الصورة التوضيحية، وهي مما يشبه القصص والحكايات التي تطرح في المجالس العامة، يؤتى بها شاهدا لما سيأتي بعدها؛ وهي بذلك صورة توضيحية تمهد لخبر إعلامي/ إعلاني/ دعائي؛ كانت تسميه البلاغة بغرض الحكمة. أما الجواهري فلديه من الصورة التوضيحية الشيء الكثير، فهو إذ يلجأ الى القصيدة المستعملة، وهو نسق انتشر في زماننا، إذ يلجأ الشاعر الى إعادة توجيه قصيدته من ممدوح سابق الى ممدوح لاحق، شرط أن يشترك الممدوحان بخيط من الشبه، إن في الموقف أو في الصفات التي يظنها الشاعر؛ ففي انقلاب حكمت سليمان وبكر صدقي، يقول الجواهري: (فضيِّقِ الحبلَ واشْدُدْ من خِناقِهم/ فربما كان في ارخائِه ضَرَرُ).ثم عاد ليقول القصيدة نفسها في الزعيم عبد الكريم قاسم، مع تغيير طفيف، بعد محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم؛ ومثل ذلك في قصيدته التي يقول فيها: (يا سيدي أسعف فمي لأقولا/ في عيد مولدك الجميل جميلاً). فقد كان قد ألقاها للوصي عبد الإله في أواخر الحكم الملكي في العراق، ثم أجرى على بعض أبياتها تغييرا طفيفاً ليلقيها للملك حسين بن طلال ملك الأردن، مستثمراً المشتركات، لأن كلّا من الوصي والملك من نسب واحد؛ وهو ما أطلقنا عليها نسق (القصيدة المستعملة)؛ ومن البيتين اللذين اخترناهما، ومن اعلاميتهما، نجد أن البيتين لا يوجد فيهما أي اشتغال بلاغي، لكنهما رسخا في الذاكرة لإعلاميتهما ولأنهما جاءا بالصور التوضيحية/ الثقافية.