ياسين النصير
كانت الرحلة إلى معرض الكتاب في المملكة العربية السعودية، فرصة للقاء بمجموعات الشباب السعودي الذي يتطلع للمثقفين العراقيين ويستمع إليهم ويسمعهم ما لديه، ومحاور الحديث دائمًا هي ما جديد الأدب؟، وما هي تطلعات الأجيال؟، ومن دون السؤال عن أي وجه من الصورة ستكون الإجابة واحدة: إننا مقبلون على التغيير، حيث ترى حركة العمران والتجديد في المدينة ما يضع على لسانك أكثر من لغة جديدة للتعبير، فقد رأيت الرياض قبل ذلك، ولكنك ترى الرياض الآن بمنظار الحداثة، وتلمس الحرية أو بعضها في التشكيلات البصرية للمدينة وللعمارة وللجامعة وللنساء ولشوارعها وحركة الناس، ولمعرض الكتاب الذي يفاجئك أن عشرات الفتيات والشبان يقفون في مسار طويل من أجل الحصول على كتاب بتوقيع المؤلف، شيء جديد أيضًا أن ترى العشرات من المتسوقين يسحبون خلفهم حقيبة ليملأها كتبًا، أما الشيء الأكثر حضورًا فهو السؤال عن الأديب العراقي؟، وما أن يعثروا عليك حتى تجد نفسك مقروءا وبوضوح وكيف تفكر، ودائمًا يكون السؤال عن مشاريعك المقبلة. لم أرَ في جولاتي الثلاث إلا الشباب من كلا الجنسين وقد ملؤوا ما كان يجب أن يكون ممرات بين حقول الكتب لتجد أن حقول النفس كانت أوسع بكثير من حقول الممرات. شيء كبير أن تختفي تلك السحنة التي تشعرك بالتميز سابقًا، اليوم تجد الوجوه المبتسمة ترى ما خلف الظاهرة، ظاهرة حضور عشرات المثقفين العراقيين كضيف شرف على المعرض وتحسب ذلك من قبل نشاط العلاقات، أو من الممهدات السياسية التي تسهم الثقافة في شد أواصرها. ولكنك تجد فيها أيضا التعرف على ما يفكر المثقف السعودي في عصر العولمة التي بدت مظاهرها في استعلامات المعرض وتسيير شؤون العرض والطلب والسؤال العام. وفي فعاليتين اشتركت فيهما كانت الأولى عن العلاقة بين الصحافة العراقية والسعودية، فوجدت نفسي أمام تفصيلات كبيرة عن دور المثقفين السعوديين في تأسيسات للصحافة في العراق ووجد أيضا الدور الكبير للصحفيين والمثقفين العراقيين في الصحافة والجامعات والثقافة السعودية، وتشعر أنك في جريان من كلتا الجهتين ذهابا نحو مكة وإيابا نحو بغداد وما بين المدى ثمة طموحات ستنفتح. وفي المحاضرة الثانية كانت نافذة على تشكيلات الحداثة في العراق منذ بداية الحكم الوطني.
في جلسة غداء كريمة، وجدت صورة شعبية عريقة بلغتها وثقافتها لهذه العلاقة المتنامية التي منحت الثقافة والمثقفين فرصة أن تكون جزءا من الخطاب السياسي والثقافي والاجتماعي، ففي تشكيلات المائدة العامرة ثمة تشكيلات لأرومة توصل بين ثقافتي البادية والمدينة، بحيث تشكل الآصرة القبلية انتسابا بين القبائل والعشائر في كلا البلدين، فهؤلاء أخوال أولئك وأولئك أعمام لهؤلاء، وما بين اللسانين تجد الثقافة وعمقها وبعثات الدراسة في الجامعات الغربية ما يجمع العراقي إلى السعودي، هو السؤال الذي لم يفارق المضياف الكبير الدكتور ممدوح، وعدد كبير من أكارم القوم: أساتذة جامعات وشيوخ، وهم يحتفون بك ويكرمون ضيافتك، ويسمعونك أن المقبل سيكون أكثر بكثير مما مضى، فالدكتور ممدوح صاحب مشاريع وذاكرة ثقافية، وحكّاء ماهر، يجمع في لسانه بين خبرة البادية وتطلعات تحديث المدينة.
لم أرد من حديثي أن يكون حديث سياحة، بل أردت منه أن يكون طريقة للتعرف بعد أن وضعت مئات العقبات في هذا الطريق بالرغم من الأرومة التي تشد أعمدة الخيمة الواحدة منذ القدم، أردت أيضا أن يكف أولئك الطارئون على هذه الأرومة العريقة من تشويه الانتماء والانتساب بعضنا لبعض، فنحن وإن بعدت تواريخنا وحاضراتنا نتبادل أحزمة الأمان، ولا نسمح للآخر الملحق دينيا وتراثيا أن يضع عصى التفرقة، مجمل الرؤية القديمة بُددت من خلال ما رأيت وسمعت وتعاملت، إذ يأتيك لسان القائمين على المعرض وكلهم من الشباب، ما يجعلك تخلع عنك الصورة القديمة للجهامة والتعامل من علو، يا للغرابة أن أكون أنا في ميدان ثقافي عربي بالرغم من صحراء رملية قاحلة تفصل بيننا. فتتغذى مفرداتي من رمال صحراء أصبحت مبللة بماء الفراتين.