بعد دراساتٍ وبحوثٍ عميقةٍ وسجالاتٍ مستفيضةٍ بين المهتمين بقصيدة النثر من النقادِ والباحثين القائمة على كتاب: «قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا» للناقدة والباحثة الفرنسية «سوزان برنار»، أجمع الكثير منهم على أن الإيقاع في قصيدة النثر يتولد داخلياً من التجربة الذاتية للشاعر، وذلك اعتماداً على حركة النص ودلالات مضامينه حيث لاوجود لمعايير أو محددات إيقاعية فيها كما لو أنها نوتات موسيقية ينبغي الالتزام بها
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
كما هو الحال في القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، مع تحديد بعض الاقتراحات الإيقاعية بما يتماشى وطبيعة القصيدة ويحقق أغراضها الجمالية والدلالية حسب أسلوب ورؤية الشاعر لتعويض الإيقاع المعياري المتمثل بالأوزان الشعرية المعروفة والقافية كأن يُعتمد على توليد الإيقاع من خلال اللازمة التي قد تكون كلمة، أو حرفاً، أوعبارة تتكرر في بداية كل جملة، أو على رأس كل فقرة، أو تكرارها في بداية النص ونهايته لإتمام عملية الغلق، أو الاستعانة بالتخطيطات ذات الطابع التشكيلي، أو الاعتماد على تشطير الجملة واختيار الكلمات ذات النبر العالي التي تتوافق مع الحالة الشعرية، أو الصدمة القائمة عادة على المفارقة، أو من خلال البناء المقطعي والتنقيط والبياضات والاشكال البصرية التي تؤدي وظائف إشارية دالة على المعنى المراد طرحه من قبلالشاعر.
وبطبيعة الحال أن الاشتغال على مقترح من تلك المقترحات الإيقاعية لا يعني بأي حال من الأحوال أن يكون تزويقياً أو جمالياً منفصلاً عن المضمون أو الفكرة الشعرية للنص، فشرط توافر الوحدة العضوية والموضوعية في قصيدة النثر شرط أساسي لتحقيق التماسك والرشاقة وقوة التأثير لما تفرضه الوحدة العضوية من صلات قربى ووشائج وروابط مشتركة بين مكونات النص.
من هذا المنطلق الموجز لتمظهرات الإيقاع الداخلي في قصيدة النثر سنعاين قصائد مجموعة «أين سيهبط بنا هذا الدخان» للشاعر ماجد الحسن الذي كان حريصاً على استلهام مصادر الإيقاع الداخلي لقصيدة النثر والاشتغال على
بعضها.بدءاً اعتمد الشاعر على اللازمة في الكثير من نصوص مجموعته سواء كانت كلمة أم عبارة أم ضميراً أم حروفاً، أم ترقيماً. فعلى مستوى اللازمة العبارة هناك قصيدة «هوامش اليقين» التي تتصدر مقاطعها عبارة «هذه المدينة» التي تتكرر ثلاث مرات، وفي قصيدة «هذا هو الجوع» تتكرر عبارة «هذا هو الجوع» خمس مرات، وفي قصيدة «جمرة العراء» تتكرر كلمة العراء سبع مرات على امتداد القصيدة، وفي قصيدة «حكاية الموتى» تتكرر عبارة «يموت القروي» ثلاث مرات»، وفي قصيدة «هذا أنا» تتكرر عبارة «هذا أنا» خمس مرات، وفي قصيدة «محطات» تتكرر كلمة «محطات» سبع مرات»، وفي قصيدة «المراثي» تتكرر كلمة «المراثي» أربع مرات، وفي قصيدة الضياع تتكرر كلمة «الضياع» أربع مرات، وفي قصيدة «من هذا اعلن» يتكرر حرف الجر «مِنْ» عشر مرات في مطلع كل مقطع من مقاطع القصيدة..
وعلى هذا المنوال، منوال اللازمة تنسج الكثير من قصائد المجموعة لتحقيق الإيقاع الداخلي، بينما هناك قصائد اعتمدت على الصدمة الناتجة عن المفارقة ومخرجاتها الدلالية في نصوص الومضة التي ضمتها هذه المجموعة لتحقيق الإيقاع، إذ يقول في ومضة «حقيقة»:»بين النخلة / والشاطئ../ ثمة بلد /
يتضور».
وفي ومضة «وجع» يقول: «وجعي/ هذا الحقل/ المغرم/ بالجوع». وفي ومضة «طبع» يقول: «هذه الروح/ لا يمكن لها أن تكون/ مالم تحيها جمرات الحزن!». كما اعتمد في قصيدتي «موائد الفلاحين» و»العمال» على السرد وتجاذباته الدرامية لتحقيق الإيقاع،
واعتمد في بعض قصائده على وسائل الترقيم كالتنقيط وعلامات الاستفهام والفواصل والبناء المقطعي الذي كان مهيمناً على اغلب قصائد المجموعة لتغطية قصائده بالإيقاع مع الأخذ بنظر الاعتبار توافر الروابط الجمالية والإحالات الدلالية ضمن إطار النص الواحد المقطعي كي يبدو ككتلة واحدة وليس مجرد مقاطع ونصوص متفرقة امتثالاً لشرط الكتلوية الذي ينبغي أن يتحقق في قصيدة النثر، مع الإيجاز والكثافة والتركيز إذ تعرف
«سوزان برنار» قصيدة النثر بأنها: «قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور، وخلق حرٌّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلِّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية».