ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
لعلَّ واحداً من أخطر الظواهر الخطابية التي يُمكن الوقوف عليها في التحليل النقدي للخطاب هي ظاهرة التلاعب، التي يميّزها «فان دايك» في كتابه الخطاب والسلطة بثلاث خواص ترتبط في ما بينها: الخطاب، الإدراك، المجتمع.والتلاعب كما يصفه الأخير: «هو الممارسة التواصلية والتفاعلية التي تمكّن المتلاعب من السيطرة على الآخرين»¹ وهذا التلاعب يبحث عن سلطة يمررها في المجتمع، وعن هيمنة على الإدراك والوعي البشري من خلال الخطاب، وهذا الخطاب لا يقتصر على ما هو كلامي تلفظي، بل على النص أيضاً، فواحد من أخطر أنواع التلاعب الخطابي هو النص المكتوب، أو النصوص التي تُنشر في الجرائد والكتب والمجلات ووسائل الإعلام، لأنّ ما هو مكتوب يبقى تأثيره ووجوده قائما عكس ما هو صوتي، ويسهم التغير الاجتماعي في ثقافة الجمعات والأفراد في إنتاج خطاب التلاعب، لأنَّ السلطة المهيمنة أو زعماء الأيديولوجيّات المختلفة مستعدون لتغيير توجهاتهم، آرائهم، مبادئهم، وكل أشكال خطاباتهم من أجل الحفاظ على سُلطتهم وهيمنتهم على أكبر قدر من الجمعات، ومن الجدير بالذكر، إن «نُرمان فيركلاف» في كتابه (الخطاب و التغيير الاجتماعي) يرى أنّ مفردات النّص (أي الخطاب بوصفه نصاً) تتبدّل وتتغير وأنّ الجملة تبقى محافظة على معناها المضمر لَكن بأيديولوجية جديدة².
كأن تُبدل مثلا: (قَتل الرجل نفسا) بـ (قتل الرجل محتّلاً أو كافراً..)، فالقتل في الخطاب الأول لا يمكن تبريره، أما في الجملة الثانية فيمكن أن يبرر من خلال ثغرة أيديولوجية ثورية في (محتلاً) تتعلق بالمقاومة ودينيّة عقائدية في (كافراً)، المثال ينطبق تماما على كل المفاصل في المجتمع ومنها السياسة، فكثيراً ما تتبدّل خطابات الأحزاب والتيارات، وشعاراتها وأسماؤها، فعندما تشعر هذه التيارات والأحزاب، بخطر الإدراك المجتمعي تسعى إلى التفاعل مع المجتمع بخطاب يناسب الحال الاجتماعي، لتنطلق منه وتهيمن من جديد، ولعل «ميشيل فوكو» كان دقيقاً بوصفه الهيمنة حين قال بأنها تقدمّ التنازلات لتبقى مهيمنة³.
فهذه الايديولوجيّات السياسية تقدم مجموعة من التنازلات من حيث المبادئ والقيم التي نشؤوا عليها لتبقى مهيمنة، ولها سلطتها على الجماعات، فظاهرة التلاعب الخطابي تنسجم وتكتسب فاعليتها من التغيّر الحاصل في الإدراك الاجتماعي، فهذا الإدراك عندما يكتشف زيف الخطابات، فإنه لا بد للسلطة من أ تتلاعب في خطاباتها لتعيد مركزيتها وقوّتها بشكل ونموذج جديد، وواحد من أهم الظواهر التي تُكسب هذه الخطابات شرعيتها، هي ظاهرة التناص، فهذه الخطابات تسعى دائما أن تُلقي على مسامع النّاس أفكاراً وتوجهات عقائدية مثلاً، أو نصوصا دينية ترتبط بالعقيدة أو أحكاما قانونية قضائية أو دستورية.. وهي مبادئ راسخة متجذرة في الكائن البشري، هذه التضمينات هي وسيلة إقناع، تتسم بالحقيقة التي يسلّم لها الإدراك، كأن تقوم سلطة معيّنة بإصدار أحكام جائرة بمعية نصوص دينية غير قابلة للطعن، والتكذيب، لذلك يصف «ميشيل فوكو» آثار الحقيقة بأنها سلطة، لأنها غير قابلة للتكذيب⁴، فالشرعية تكمن من مباركة المجتمع والجماعات الاجتماعية ولكن هذه الجماعات لكي ينطلي عليها خطاب التلاعب هذا، تحتاج إلى مصاديق وحيل تجعل من ما هو لعبة حقيقة ومصداق، وهنا تكمن دور المعرفة والعقيدة في خلق تناصات تكسب الخطاب شرعيته.
***
1. دايك، توين فان، الخطاب والسلطة، المركز القومي للترجمة، ترجمة: غيداء العلي، تحقيق: عماد عبد اللطيف ط١، القاهرة، 2014، ص 430.
2. فركلاف نورمان، الخطاب والتغيير الاجتماعي، المركز القومي للترجمة، ترجمة محمد عناني، 2015، ص (124 - 125)
3. فوكو ميشيل، السلطة والجنس، ترجمة لحسن
احمامة.