ياسين النصير
ما أكثر الحالات غرابة لاتجد ما تعبرعنه، أو عندما لا تجعل الكلمات تفعّل الأشياء، نكون قد بدأنا في ألعاب اللغة، هذا ميدان خصب من التأمل والتجريب، والقليل منا ينتبه إلى دور الكلمات التي تفعّل الأشياء. «إنَّهُ يَرَى أنَّ "الكلمة لها لَونٌ، وتُكَوِّنُ خَصيصَة. ولَها وُجوهٌ، وقيافاتٌ، وتَصَرُّفاتٌ، وإيماءاتٌ، ولها طَبائعُ، وأَمزِجَةٌ، وشُذوذاتٌ، ولها صِبغاتٌ، ونَغَماتٌ، وشخصِيّاتٌ. أنا أَكتبُ لأصدقائي الأَعزّاءِ الذينَ يَستَطيعونَ أن يروا اللونَ في الكَلِماتِ، وأن يَشُمُّوا عِطرَ المَقاطعِ في طَورِ الإزهارِ، وأن يُصْدَموا بِشُذوذِ الكلماتِ الفاتنِ اللطيف. وفي التَّرتيبِ الأَبَديِّ لِلأشياء، سَيعرِفُ الناسُ في نهايةِ المَطافِ للكلماتِ حُقوقَها» باتريك لافوديو هيرن نقلا عن كتاب معنى المعنى ص354.
سيكون دور الكلمات مثل دور عود الثقاب في موقد النار، يشعل الأشياء ويعيد انتاج النار بمتظهرات مختلفة لينتج أعوادا من النار أكثر صناعة وعلما، وتكون أشكالها اجتماعية: حرارة ودفء وطهو وأمن وعلامة، دون أن ننسى الرماد، الذي غالبا ما يسد به ثقوب الجدار أو تكحل به العيون الرمداء او يسد به جرح نازف، أو يكون وسادة لاطفال لا وسائد لهم، الحياة، ولنحتفظ بالموقد فنحن نجد فيه حاضنة لكل العلائق بين الكلمات والأشياء، حين تكون الصورة هي حرارة الأفعال، لا شك أن هذا الحقل من حقول دلالية اللغة وخاصة حقلها البراغماتي يجعل من الأشياء منفعة متداولة، ومادة اشتغال لغوية، ويجعل الموقد من الكلمات ميدانا لبناء علاقات واسعة مع الأشياء ومحيطها، لن أتغلغل بعيدا في هذه العلاقة، فقد تولتها ألعاب اللغة واشتغالات فغتنيشتاين وغيره، ولكني أميل لتبسيط العلاقة بين الكلمات والأشياء، ليس على طريقة سارتر، إنما في كيفية تفاعلهما في العمل الأدبي، بمعزل عن العمق الفلسفي كما نوّه سارتر. إن أية جملة من قبيل «القمر مضيء» ستمدّنا الإضاءة بحقل واسع من الكلمات المتعلقة بالقمر، ومعظم مفردات هذا الحقل لم تظهر في الجملة ولكنها تتفاعل مع القمر، فالطبيعة تفكر من خلال حركتها، فالضوء إذا فاعل في الغياب، وتستدعي الاضاءة الرؤية الليلية الشفيفة، ولغتها اللسانية الهادئة التي غالبًا ما تقترن بالموسيقى والغناء والطرب، وأيضا تستدعي الحب والعاطفة والتمثيل، ولا أعتقد أن أحدًا عاش في القرية لم يستثمر شفافية الضوء ويبث حبيبته بأجمل الكلمات، وإذا مددنا صور العلاقة الدلالية مع الطبيعة نجد الاضاءة تعني المدَّ في المياه والسقي، والكيفية التي يتحول فيها حضور النور في التأثير على البحار والنفوس، والكشف والوضوح والرؤية، وإذا كان سارتر يبتدئ كتابه المهم «الكلمات والأشياء» بالكلمات، ويعني أن الكلام أسبق من الشيء، ويعالج فيه أزمة العصر، فنحن نميل إلى العكس حينما نقول: «الأشياء والكلمات» لمحدودية المجال الذي نتطرق إليه، لأن الفاعل في الشيء هو اللغة، ولذلك لايحضر الفاعل قبل حضور الأشياء، لا نار تشعل من دون وجود حطب، ولا موقد من دون وجود الإنسان، إلا أن موضوع سارتر الفلسفي الغني بمدارجه المعرفية أو كما سمّاه فوكو «نظام الأشياء» يضعنا في سؤال جديد من يفعّل الأشياء غير الكلمات؟، وهذا السؤال هو ميدان اشتغال الأدب. وللاختصار نقول على الأديب مهما كان ميدان اشتغاله، أن يفكر أولًا بالأشياء التي سيتعامل معها، طبعًا لايمكنه أن يفكر في كل شيء، وإنمّا ثمة أشياء أساسية وأخرى ثانوية، وأن يختار للأشياء الكلمات المقتصدة، المشبعة بمحليتها، من دون ذلك لا يشعل عود الثقاب المحلي حطبا أجنبيًا.