في فسحة القراءة والمشاهدة التي أتيحت لنا منذ سنوات، نجد أنفسنا داخل ما نقرأ ونشاهد، في غالب ما يردنا من هناك مترجماً، من لغات العالم (كتباً ورقائق فيلمية وغيرها) بل وإنَّ بعضنا، ممن تضيق بهم العوالم، في الشرق الموحش هذا، أدمنوا قراءة ومشاهدة ما يردهم من الورق والرقائق تلك، حتى ظنوا أنْ لا حياة لهم خارجها، وأنَّ ما يتطلعون اليه وجدوه مكتوباً ومنظوراً في بيوتهم. ولكي لا نبدو متشائمين جداً، سنسأل السؤال الاكثر تحدياً: ترى، هل في ما ننتج من الكتب، وما نعرضه على الشاشات، الصغيرة والكبيرة ما يعبّر فعلاً عن حياتنا؟، وهل استطعنا تقديم الصورة الحقيقة لما نحن فيه وعليه؟، وهل قدمنا ما يجب أنْ نقدمه في كتبنا ووسائل انتاجنا الادبية والفكرية؟، أم أننا رضينا بما قدمناه، ودليلنا على ذلك ما يتحفنا الاصدقاء به من لايكات؟.
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
شخصياً، سألتُ نفسي السؤال هذا، وأنا أشاهد فيلم (فريدا) الذي يتناول حياة وأعمال الفنانة والرسامة المكسيكية فريدا كاهلو (1907 - 1954) ومع يقيني بأنَّ السينما التي تتناول حياة وسلوك الفنانين والادباء والروائيين لا تمنحنا الواقعة التاريخية إلا عبر كاميرا مضخّمة، تعالج الحدث، بما ينسجم مع رؤى المخرج، ومتطلبات الشباك، إلا أنَّني، وبالعودة الى كتاب مذكرات كاهلو وكتب أخرى عن حياتها، وجدتُ شريط الفيلم لم يذهب بعيداً، وأنَّ كاهلو (سلمى حايك) هي ذاتها، التي قدّمت، وعبر حياة خارقة، استثنائية، غرائبية، صاخبةً مليئة بالتطرف والتعقل في السياسة والحب والمرض والاحداث.. قدمت حياتها ثمنا لذلك كله، وأن علاقتها بزوجها الفنان (دييغو ريفيرا) الذي يكبرها بأكثر من عشرين سنة، كما هي في الواقع، وانها كانت بالفعل عشيقة للسياسي الروسي المنشق ليون تروتسكي، هذه الحياة التي أجدني في كثير من حماقاتها وجنونها، حتى قلت مع نفسي: ليتني حظيت بامرأة مثلها.تتيحُ الصحفُ والقنوات الاعلامية سماع ومشاهدة بعض فنانينا، فنفاجأ بتدني الوعي وتسطيح الافكار، وشُحّ في القراءة والمتابعة، فنشعر بأنَّهم في وادٍ من الجهل عميق، بين ما يحدث هناك، وما هم عليه. كانت فريدا تسمي ريفيرا زوجها (السمين) -فهو الذي طلقها بسبب خيانته مع شقيقتها ثم عاد اليها- لكننا، نجده انسانا كبيراً في افتتاح معرضها الأخير، الذي أقيم في أفخم القاعات، بحضور مشاهير العالم، ونجوم السينما، ورموز الفن والثقافة والفكر، وكلهم يحلم برؤية فريدا.
وهنا يقف رفيرا، وهو يترنح حزناً، قائلاً: أنا لن أتكلم عن زوجتي، إنما بوصفي فنانا معروفا عندكم، أتكلم عن فنانة مكسيكية، وقف العالم لها باحترام، فريدا كاهلو، هي لا ترسم، بل تصنع مخلوقات، او تخلق موضوعات مبتكرة جدا، فريدا فنانة كبيرة، محترفة، ألهمت عظماء العالم مثل بيكاسو ودالي، كما ألهمت همنغواي واندريه بريتون. وحين بكى الجمهور صاح ريفيرا لكنها قاسية مثل الحياة، ورقيقة مثل جناحي فراشة، ومُرة كمواجعها الصحيّة، فريدا لاذعة مثل لوحاتها، هي لا تحتاج الى ساقيها المبتورين، لانها تمتلك جناحين تحلق بهما في السماء والامكنة. في اللحظات الحاسمة تلك تدخل فريدا محمولة على سرير النوم وهي تقهقه. من يقرأ كلماتها يقرن بقوة بين منجزها في الفن ورؤيتها في السياسة والفكر.