رعد أطياف
يقاتل الكثير منا على جعل الوجود طبقاً لصورته المرغوبة. والحال أن الرغبة لا تجلي الحقيقة، بل تغطيها بحجاب أسود يقضي على سطوعها وتجليها كما هي. الرغبة لها شأن آخر؛ كلما تنفست الحقيقية بتلقائية داهمتها الرغبة فتحيلها إلى غموض. ليس هذا فحسب بل ستجعل من الحقيقة سماً وليس ترياقاً. إن مفهوم الرغبة يبدو ملتبساً من حيث المدلول
فهو يحمل في طيّاته معاني مختلفة فقد تكون الرغبة لفعل الخير، وقد تكون عكس ذلك. المقصود هنا بالرغبة تحديداً باعتبارها عطشاً واشتهاءً تجعل من صاحبها على غير طبيعته. ونعني بالطبيعة هنا: الأشياء كما هي لا كما تبدو لعطشنا-رغباتنا. نرغب بالخلود ونخاف الفناء، نرغب بالشباب ونخاف الشيخوخة، نرغب بالصحة الدائمة ونخاف المرض، نريد ان نٌولد وكفى!. لا نريد أن نكون على طبيعتنا الحقّة، ولا نستطيع أن نخالف هذه الصورة، لأننا كائنات تشتهي وتعطش الوجود لكنّها لا تطيق أعباءه الثقيلة وأمانته الجسيمة، أي أننا نحلم بوجود لا معاناة فيه. فما يخالف هذه الصورة فهو «بالضرورة» يخالف عطشنا، وتوقنا نحو الصيرورة المُغلّفَة بالمعاناة. وحين تشعر الرغبة بأنها مُهدّدَة تنتصر العادات لنفسها، وتهتزّ الذات وتترجم هذا الاهتزاز على شكل معاناة وكرب نفسي. نحن بهذا كما العطشان يرى السراب فيتصوره ماء. فغالباً ما ننظر للأشياء من هذا المنظور. فنعمد إلى إرواء عطشنا لكن من دون جدوى، لأنه عطش مزمن لا ترويه رغباتنا الجامحة؛ ذلك أن الرغبة لا تشبع على الإطلاق، وتحمل في أعماقها بذور صيرورتها. فالوجود ومعاناته يشبه البحر المالح «سنموت لو استمرينا على الارتواء منه»، لأننا أشبعناه بالتصورات الزائفة على حساب المعايشة التلقائية توهماً منّا أن التصورات الزائفة ستقوم بإروائنا. فبدلاً من العيش اخترنا التصورات والأحكام المزيفة التي تفصل المعاناة عن الوجود، والحال أن للوجود والمعاناة علاقة بينية، علاقة تضايف، لا يكتمل أحدهما إلا بحضور الآخر. فمن يشتهي فصل هذه العلاقة كمن يفصل العجلات عن العربة. إن الانغماس في الحزن ورثاء الذات لا يحسن نوعية الوجود!، والتفاؤل المفرط لا يخلق سوى اوهاماً مضاعفة. وحده الانفتاح على ممكنات الوجود «بلا توقعات حزينة» يمنحنا تلك القوة الاستثنائية، فيحيل تجربتنا إلى مغامرة لبحّار في بحر متلاطم الأمواج، أو بدوي تسكنه بهجة الترحال في الصحارى الشاسعة. إنها مغامرة تمنحنا لذة الاكتشاف لكي تتحول المعاناة، لاحقاً، إلى سماد لزرعنا القادم. فأهل الرغبات المتعطّشة كانت» أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا..».