ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
قبل أسبوع 20 - 4 - 2021 كنت في زيارة ثقافية لبيت الحكمة في بغداد، باحثا عن مشروعي الثقافي الذي أسست له دار" أهوار" للنشر والطباعة، فاكتشفت نفسي من خلال عمقي التراثي والتاريخي، جمالية الأمكنة هي أن تعرفك على ذاتك، هكذا شعرت في البداية وأنا أتجول في المبنى التراثي العريق: أن وجودنا يستمر من خلال وعينا النقدي بالتراث، وهذا ما خرجت به من لقاءاتي مع الدكتور احسان رئيس بيت الحكمة والدكتور مظفرمدير إعلام البيت، وبمعية الدكتور سعد التميمي، المثقف النوعي. لا أتحدث هنا عن نفسي كضيف، بقدر ما اتحدث عن وجود آخرلذاتي في هذا المكان.لن أصف المبنى العريق بهندسته، وفضاءاته، وايواناته، وقاعاته، وغرفه، وممراته، وعلاقة كل جزئية فيه بمجرى دجلة الخير، وبمؤسسات مدينة بغداد العباسية، بل سأتحدث لاحقا عن الدور الذي تقوم به إدارة هذا الصرح الثقافي العريق، وهي تباشر العالم العربي من خلال حضوره التاريخي والتراثي، وهو دوركبير: فلسفة وثقافة وشواهد ومدونات وكتبا وحضارة ومسؤولية في أن يكون العراق في الصدارة من مشاريعه، وحتى هذا الحديث يبقى قاصرا عن الإيفاء بكل تفاصيل إنتاج هذا المكان ومن يعمل فيه. شعرت وأنا ارتشف فنجانين من القهوة المميزة وبخلفية دجلة الذي يدخل غرف المبنى ويلامس اي شيء فيه بما فيه قهوتي المرة.أن صلتي لم تنقطع بتراث العراق، لا بل أن غرسا غنيا يمتلكه هذا الصرح بما فيه وبما يخطط له. سيكون له نتائجه الكبيرة في حياة المدينة بغداد كعاصمة دائمة للتراث العربي الإسلامي، وكمدونة مكانية للعمارة وطرائق استيعابها للحداثة قبل ان يتكلم الغرب عن الحداثة، وخلال قراءاتي لجذور الحداثة في القرن الرابع عشر في ايطاليا، كانت البداية هي التأثر بالعمارة الشرقية الإسلامية، بيوتها ومسقفاتها وأسواقها ومواصلاتها والعاملين فيها، والتنظيم الاقتصادي والثقافي للعلاقات بين كل مفاصل المدينة وصروحها المعمارية،ومن جنوا في جنوب ايطاليا أضاء شعاع العمارة الاسلامية والشرقية أوروبا عبرعلاقة البحر الابيض المتوسط بالمدن الساحلية. في لقائي هذا، وجدت أن كل كتب التاريخ والتراث لم تستوعب إلا جزئيات من هذا التأثير، فكيف بنا ونحن نعيش في رحم أمكنتنا القديمة/ الحديثة، ويكون تفكيرنا بغيرنا أكثر حضورًا من التفكير بأنفسنا؟.
كانت جولتي في روح الأمكنة العراقية، التي شعرت وأنا أجرجر خطواتي بين عتباتها، أن كل غرفة، وقاعة، وممر، وسقف، وقوس، وفضاء، يمنحني وجودًا ضافيًا على كينونتي كعراقي يمتد جسده حيا في هذا الفضاء الفكري، الفلسفي، الثقافي، المعاصر. وأحسست بوجود الكندي وابن سينا والفارابي وغيرهم من الفلاسفة والعلماء الذين نقلوا تراث الانسانية واليونانية للعربية، ومن ثم أعادوا انتاج الفلسفة وتصوراتهم من خلال ابن عربي وابن رشد ليبنوا الفلسفة الغربية لاحقًا، لن أتحدث عن ذلك، فحديثي يبقى ناقصًا مهما أفضت فيه.
الخطوات التي قادتني الى مكامن هذا الفضاء المعرفي، مصحوبة بعملين مهمين، أضفيا على البناء مسحة لكينونة دائمة الحضور: هما: بغداد ودجلة. وإذا نجد بغداد ممثلة بالعديد من أبنيتها ومكوناتها الفضائية، لم نجد لدجلة ذلك الحضور الفاعل في المدينة، فقد بقي دجلة كنهر يجري تصاحبه الأحداث، يستوعب بعضها ويرفض بعضها الآخر، لم يتغلغل دجلة في أزقة وشوارع ومحلات بغداد، كما يجب أن يكون دور النهر في المدن، ليغذي هذه المفاصل بالعمق التاريخي لحضارة وادي الرافدين، فوجود دجلة في بغداد يعني وجودًا لبغداد في مجرى الزمن،عالميًا عبر محليتها، وكونيًا عبر اتصالها بجذور حضارة وادي الرافدين، التي تعد الانثروبولوجيا الثقافية أن حضارة وادي الرافدين هي الدائرة الانثروبولوجية السادسة من دوائرها العالمية، وميزة هذه الدائرة أنها كونية، وأسست القوانين والكتابة والأسطورة والملحمة والشعر والتفكير بالخلق الكوني كموطن لسرديات الاديان الكبرى، وأنحضارة وادي الرافدين مرنة تستوعب كل التغيرات، وحذرت المدونة الانثروبولوجية من أن تدعي بعض دول الجوار أبوتها لهذه الحضارة، وهذا شيء واقع بالفعل. علينا أن نفكير بالكيفية التي يدخل فيها دجلة الى أزقتنا وبيوتنا، وشوارعنا ومكاتبنا، وحياتنا اليومية، فحضوره الفاعل ما زال غائبًا، في حين انه وحده الذي يديم دار الحكمة في الوجدان والتراث العراقي والعربي عبر بيت الحكمة.
قلت لن أكتب عن هذا الصرح الشاهد، ولكن القلم أخذني في غفوة من نفسي، لأعبر عن جزيل شكري لمن أتاح لي هذه الرؤية العميقة، لبيت هو بيتنا الثقافي العريق، هو رحمنا الذي يحمل سردية وجود الدولة العراقية