1ـ مدخل:
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
إن من جماليات العمل الأدبي بشكل عام الفكرة والموضوع وحرفة التأليف في القصة والرواية على وجه التحديد، فإن الفكرة هي روح العمل القصصي والروائي، الفكرة هي التي تهم القارئ، بمعنى ماذا يريد هذا العمل الأدبي أن يحدثني عنه؟، هذا عامل، والعامل الآخر أن الرواية إضافة لتاريخ الأدب، بمعنى أن هناك على سبيل المثال رواية "وكر السلمان" للكاتب العراقي "شلال عنوز" كتبت في القرن الواحد والعشرين أرّخت عن حقبة بعينها في هذا العصر الذي كثرت فيه الحروب، ورمزت بشكل مباشر وغير مباشر عن أثر الحروب في نفوس البشر الفطرية التي نشأت في بيئة سوية لحد ما، وعامل ثالث هو الوقوف على رصد التطور الأدبي الحديث في التكنيك الروائي، من ناحية الشكل والمضمون فيما ظهرت عليه الرواية في أول عهدها، ومما لا شك فيه أنها قد اختلفت عن الرواية التي مارست مشوارها الإبداعي طوال مئات السنين، وأحدثت تطورا ملحوظا من حيث الشكل والمضمون والتكنيك حتى في أفكارها والموضوعات التي تناولتها، إذ لم يكن لدى الكتاب الروائيين القدامى جرأة وعلم كافٍ لاختراق النفس البشرية ومعرفة ما يؤرّقها في الآن والحال بترجمة علمية للشعور واللاشعور، وإن نحت في غير التقليدي تكلّمت عن الخيال العلمي، ولعلنا الآن نشهد هذا التطور التكنيكي الذي تحلى بالعلم والثقافة والادراك المعرفي جعل كتاب الرواية يتناولون أفكارا وموضوعات يرصدون في رواياتهم الحال الواقعي للإنسان بشكل أقرب للتعبير عن هموم النفس البشرية ومعاناتها وما تتوق إليه.. هذه عوامل قد تعد ترسيخا لرسالة الأدب وأثره على المجتمع، وفي تطوره الحداثي من خلال كل الأجناس الأدبية قد تخطى حدّ المتعة والتسلية وتعبير الروائي عن نفسه لتفريغ همومه وأوجاعه الشخصية على الورق.فنحن اليوم أمام عمل روائي بمثابة الصرخة المدوية في وجه العالم الحديث، تصرخ رواية "وكر السلمان" صرخات متلاحقة في وجه إنسان اليوم والحقب المتوالية من الإنسان المقبل، تقول وبملء فمها: "انظروا إلى أين تتجهون بالإنسان المعاصر والمقبل.. إن رحى الحروب المتكررة لن تكتفي بإبادة الجنود على أرض المعركة فقط، بل تطال الإنسان خارج أرض المعركة الذي ظن أنه آمن في بيته وفي عمله وفي الشوارع والميادين، ولم يكن الأوجع للإنسان المدني أن
تطاله هو الآخر صواريخها وقنابلها حيث كان، بل هي تقتل وتدمر النفس البشرية كافة، وهي الدمار الشامل على أمد التاريخ"
فما أوجع ما قالته الرواية وصرخت
به.
2ـ الصورة في الزمان والمكان والإنسان:
مما لا شك فيه أن الرواية التقليدية طوال مراحلها قامت على التركيز على أبعاد رئيسة تبدو "تابو" مهما أصيلا في التوصيف النقدي لكل الأعمال الروائية من خلال: الزمان، والمكان، والأحداث، والشخصيات الفاعلة، ولكننا اليوم نسير وراء حداثة ربما تكون فاعلة للتقدم والتطور، وربما تخفت وتثبت فشلها في الأيام المقبلة من خلال الإنسان المعاصر بتركيبته الفريدة المتنوعة المحيرة، إذ إنها تتجه نحو الخروج بالأجناس الأدبية من براثن الشكلية والأطر المحددة، وترفع لواء عدم تحديد الهوية للنصوص الأدبية عبر التدنيس، والخروج عبر النوعية والانحياز في التعريف والتوصيف إلى سلطة النص، وفي هذا حديث طويل لا يتسع مجال هذه الدراسة للخوض فيه، ولنا رأي فيه من خلال مقال منفرد يعبر عن وجهة نظرنا بالدلائل العلمية، يتكئ على أن العلم التقدمي صاحب الرؤية الدقيقة إما يؤكد على هذه النظرية أو يثبت عدم مصداقيتها، ولكننا اليوم في حضرة نص واضح معرّف محدد الجنس والهوية، في حضرة رواية "وكر السلمان" للكاتب شلال عنوز..
لابد أن نعترف كنقاد أن دراسة الزمان والمكان في الرواية بشكل عام، عنصران مهمان يرتبطان ارتباطا وثيقا بآلية التكنيك والإبداع، ورواية وكر السلمان دليل. أولا من يقرأ الرواية قراءة نقدية أو تذوقية انطباعية سيقف عند الصورة في كل فواصل وعناصر الرواية، إذ إن الصورة محرّكة الخيال وهي القوة المغناطيسية لانجذاب القارئ أو المتلقي في الأعمال الأدبية والفنية على حد سواء، وفي هذه الرواية تأخذ الصورة اهتمام العين ولباب الفكر، وهي أداة رئيسة من أدوات مؤلف الرواية، لعل من قرأ رواية دعاء الكروان لطه حسين يلمح جليا فعل الصورة في عملية الانجذاب، وحرفية طه حسين كأديب في خلق صورة جمالية ومعبأة بالفكرة وأصل الموضوع، إذ إنه نجح في تصوير الدم الأحمر القاني الرقراق كأبشع جريمة، واليد المخضبة به هي فعل شيطان مريد، كما صور كتل الظلام وسحب الغيم كصورة مقبضة للنفس البشرية وهي دال رئيس على الجهل وخواء النفوس وتوقها لنور العلم والبصيرة؛ تماما كالصورة المحركة الفاعلة في هذه الرواية..
والسؤال الفارض نفسه تحت هذا العنوان الفرعي "الصورة في الزمان والمكان والأثر الفاعل" هل الصورة في الزمان والمكان لها أثر فاعل، إما أن تصدر أثيرا يتيح الانجذاب لدى القارئ، أو تصدر أثيرا يساعد على النفور والبعد والترك؟.
فلنتكلم عن الصورة في الزمان وأثرها الفاعل في الرواية التي تخلق البصيرة في ذهن المتلقي..
الزمان والمكان نجحا في تصوير البيئة الداخلية للبطل والشخوص المحورية، ووضعا الرواية في بيئة محيطة تؤكد فكرة الرواية في كل تفاصيلها، عندما حدثنا الراوي على لسان البطل في أول فكرة يسوقها إلى القارئ في توصيف المجرم، كان المكان في الجامعة -كلية الحقوق- أما الزمان كان (فلاش باك) حيث مرحلة الشباب، وكان نعمان البطل في مرحلة الجامعة وهو والزملاء يناقشون نظرية لامبروزو في علم الإجرام، للخروج بالمفهوم الحديث من هو المجرم؟، وهل له أوصاف شكلية وظواهر نفسية تلمح في السلوك؟، فنجد أن هذه الفكرة هي من المحاور الرئيسة في الرواية، رغم أن الروائي ناقشها بأسلوب فلسفي ليؤكد الوقوف عند هذه الفكرة لدى القارئ، غير أنها في ذات الوقت لعبت على البعد السيكولوجي والدراسة النفسية لشخوص الرواية والبيئة المحيطة التي ترسخ الجو النفسي المطلوب لموضوع الرواية وفكرتها الرئيسة وأفكارها الفرعية الداعمة، وهذا هو الحوار الوحيد لتوصيف المجرم جاء في الأحداث الأولية للرواية باختيار ذكي للزمان والمكان من خلال الصورة في تصوير الجو والبيئة والفكرة التي يريد طرحها بأفضل شكل، إذ أتاحت صورة المكان والمرحلة العمرية التي ترمز للزمان لسرد تاريخ حالة البطل في مراحله العمرية، كما أن الكاتب نجح في الاتكاء على الصورة لتصوير الحالة النفسية للبطل من خلال الخلية الأولى التي نشأ فيها من خلال تصوير لقطات ذات ملمح لأسرته تؤكد على تاريخ الحالة للبطل في زمان ماض (كفلاش باك)، كما تابع هذا في تطور مراحل البطل العمرية، وعند التحاقه بالعسكرية وذهابه للجبهة أجاد إجادة ولا أروع في تصوير لقطات ومشاهد لصور حية للغارات القتالية من العدو على فصيله في أحد الخنادق، وقد قتلت القنابل والصواريخ كل زملائه، وهو يشاهد أشلاء الجثث بعينيه ويحكي عن مواقف بعضهم قبل الموت ويقص علينا قصة حياة البعض منهم، ويسرد لنا أحلامهم وأمانيهم، وما ينتظرهم من خط مستقبلي مفروض عليهم لا يسمح لهم بمط خريطة الأحلام لتحقيق مستقبل فوق سقف الواقع المعيش في ظل وجود الحروب المستمرة التي يخوضها العراق مرغما حينا، واستعراض للقوة في حين آخر في ظل حقبة مضت من تاريخ العراق في ظل حكم صدام حسين..
كانت الصورة هي الأداة الأولى في تصوير هدف الرواية ومرور فكرتها التي اعتمد عليها الكاتب بإتقان يحسب له، صورة لم تكن عشوائية ولكنها صورة تصور لقطات ومشاهد خاطفة تنور على الهدف من خلال البصيرة..
إن الرؤية البصرية في الأعمال الأدبية والفنية هي أوقع عنصر للجذب في العمل الأدبي والفني للمتلقي، وهي لم تعمل فقط على الصورة المباشرة وتأويلها على حدود اللقطة، ولكنها في المكتوب المقروء بالذات تستخدم دلالات عدة لعناصر أخرى مساعدة للتتحايل على العقل والخيال لدى المتلقي، إذ إنها ترتع في تصوير المكان والزمان وتركيبة الشخصيات وخلق حيوات خاصة لهم تناسب هدف الفكرة، وفي هذا براعة في التكنيك القصصي والروائي من حيث التأليف الذي يناسب ويتضافر مع الواقع بحيث يشعر المتلقي أنها شخصيات حقيقية، ومواقفهم قد حدثت بالفعل، وفي هذا قمة خيال الكاتب أن يصور حكاية من خياله يصدقها القارئ على أنها واقع قد حدث ويحدث وسيحدث، فالرؤية البصرية كما أنها تعتمد على الصورة، تعتمد أيضا في حدود المقروء على عامل اللغة والحوار والموقف المحبوك، وفي بناء الشخصية المحورية والشخصيات المعاونة، فكانت اللغة لغة طبيعية تشبه الحياة والواقع بشكل كبير، تخلت عن البلاغة الظاهرة في الألفاظ وبناء الجمل، وتخلت عن إكسسوارات الزينة والألوان الزاهية كما المعروضات في فاترينات محلات الهدايا في محفل الشعرية، رغم أن عهدنا بالكاتب أنه شاعر بليغ، وهذا أعده للمصداقية الخالصة والأمانة في حدود جنس الرواية كرواية هدفها موضوع بعينه يمرر فكرة تأثير دمار الحروب في الإنسان، وأن هناك روائيون كثر يسقطون في جب سحيق في معيار اللغة، ويخفقون في اختيار اللغة المناسبة التي تناسب موضوع عملهم الأدبي وفكرته، ويميلون لتذوق حلاوة الألفاظ على ألسنتهم، وبناء المقاطع اللغوية الرنانة بشعرية رمزية معتمة لا توضح المعنى المناسب والمطلوب، وأيضا اعتمدت الرؤية البصرية على تركيب الشخصيات المذهل من أول خلق شخصية البطل "نعمان" بدقة وتوصيف واضح، والبناء الشكلي الخارجي، والبناء النفسي الداخلي المغاير، ونجح في تصوير صراع الشخصية الداخلي، واعتماده على المنولوج الداخلي والحوارات والأفكار التي يناقشها الكاتب مع نفسه، ومدى التحكم ورباطة الجأش والبطل يتعامل مع الشخصيات المحيطة به ليبدو متآلفا معهم، وأنه منهم، ومماثلا لواقعهم، وفي هذا نصيحة للكتاب الجدد، عليهم الاعتماد في رواياتهم على المونولوج النفسي بقدرة تكنيكية لأنه وسيلة فريدة في توصيف الشخصية، وبساط سريع كما البرق لمساعدة الكاتب للتعبير عن فكرة عمله الأدبي بشكل مباشر وربطها بأفكار فرعية مساعدة، ونجد هذا في تصوير أم البطل المرأة العربية العادية البسيطة التي كل همها ودورها في الحياة الحفاظ على البيت والأسرة وتربية الأولاد ومصادقة الزوج والترطيب عليه من منغصات الحياة، والأب الرجل العربي الذي يحرص حرصا دائما على توفير مناخ صالح لأولاده وتعليمهم وتربيتهم وفق ضمير مجتمعي عادل..
في تركيبة الشخصيات عمل الكاتب بشكل غير مباشر على تصدير فكرة العدل من خلال أسرة البطل، لتكون فكرة تأخذ كفة الميزان الأخرى معادلا لفكرة الحرب المدمرة الغاشمة التي ينقصها العدل والضمير.
أما أن الحديث طويل عن كل عنصر من عناصر التكنيك ومدى إجادة الكاتب في العمل عليه باتقان وحرفة من خلال رواية "وكر السلمان" للكاتب "شلال عنوز" لا يتسع مجال الدراسة للحديث عنه بالتفصيل الدقيق آملا أن تكون القراءة تفتح طريق الوعي للكتاب الجدد، فلابد أن أعترف على آخر سطور تقريري هنا أن رواية "وكر السلمان" من أروع الروايات التي قرأتها في آخر عام 2020 حتى
الآن.