يوسف عبود جويعد
في دراستين سابقتين، بحثنا فيهما تجربة الشاعر جبار الكواز، وإبداعه المتفرد في تقديم نماذج لنصوص شعرية، مغايرة ومختلفة، تدخل ضمن فن صناعة القصيدة الشعرية النثرية، ومدى قدرته في تحديث هذا النمط الشعري، وكان ذلك من خلال المجموعتين الشعرية (أراكِ حيث لن تكوني هناك/ 2018) و(أحزان صانع الطين/ 2019)، واستمراراً في متابعة تجربة الشاعر، نطوف في المجموعة الشعرية (فوق غابة محترقة) لنكتشف معالم التطور والتحديث فيها، فقد لاحظنا وكما هو شأنه في عملية بناء القصيدة الشعرية، تلك الانطلاقة الحرة الجريئة التي لا تقف عند حدود معينة، أو تحدها الأطر الضيقة التي تفرض على الشاعر أن يبقى حبيسها وبين مساحتها المحددة، فيفقد الكثير من البوح الحر الذي يسكن ذاكرته، وفكره، ووعيه، والخزين الثقافي الذي يمتلكه، والذي من الضروري أن يشكل مساراً مهماً في عملية تدوين النص، هذا الحاجز الذي تخلقه بعض الأحيان تقنيات القصيدة النثرية الضيقة، استطاع الكواز أن يتجاوزه بل يهدمه من أجل تحطيم هذه الهوة، ليخرج الى فضاء واسع رحب كبير لا تحده فيه حدود، ولا يعوقه أي عائق، إذ يكون الخيال الخصب اللا متناهي الذي يمتاز فيه الشاعر في عملية بناء قصيدته الشعرية المتفردة، تصل حد التماهي والتعاشق مع المفردة الشعرية، التي يلتصق بتلابيبها، ولا يحيد عنها إلا بعد أن ينجز مهمته الشعرية، وتبدو لي عملية بناء القصيدة النثرية الشعرية، كشجرة مستقيمة الجذع تسير باستقامة، ثم تتوقف أمام مفردة لا تؤدي دورها المطلوب ما لم يكن لها غصن تتفرع منه، وأحياناً يتفرع من هذا الغصن غصن آخر، كلما اقتضت الضرورة في ذلك، ويصل أحياناً هذا التشابك والتفرعات الغصنية لأكثر من غصن متداخل، وهي عملية لصناعة القصيدة تحتاج إلى جهد كبير، ولا يجيد تقنياتها، إلّا الكواز، والمثل
على ذلك قصيدة (حارس الذاكرة) التي ضمتها هذه المجموعة الشعرية:
وقال لها: "تأكدي أنني لن افتحك لـ (الصقالبة/ الزنوج/ الصفر/ الغال/الامزيغ/ السود/ الافرنجة/ البداة/ الموسقوفيون/ الترك/ العجم/ العماليق/ السحرة/ الإنكليز").
وفي موطن آخر من القصيدة:"تطايرت
منه فتيات (بيضاوات/سمراوات/ صفراوات/سوداوات/ حمراوات)".
وهكذا نكتشف أن الشاعر، لا يقف عند رؤية شعرية مغلقة المعالم، من دون أن يعطيها معالمها الواضحة، حتى لو تطلب الأمر المزيد من الفروع.
وفي القصائد التي تمتد مستقيمة من دون فروع، فإن الشاعر يرى أنها تعطي معناها وتفي غرضها من دون الحاجة إلى هذا التداخل، ونجد ذلك في قصيدة (أيام) التي يقدم لنا الشاعر
رؤيته الفنية الشعرية للأيام وتداعياتها: "تلك الأيام.../لا يُطفئها نور/ ولا تنيرها ظلمة/ نعم/ تُعاندنا؟!/ نعم/ تُمسك ظلال خيباتنا؟!نعم
تقفز هاربة من أصابعنا؟!/ نعم هي أيامنا/ لا أسمي مروقها وهم/ ولا أسمّيها ذكرى / نحن ما زلنا في الأعالي نثقب الغيوم
بالأغاني".
وفي قصيدة (مُسوّدَةٌ) نقف الى ما ذهبنا إليه في تلك الانطلاقة الشعرية الحرة الكبيرة التي لا تحدها حدود، وهي قصيدة مهداة الى الصديق العزيز (أمير دوشي) مع الاعتزاز، هكذا أشار الشاعر في مستهل قصيدته: "لم تكن ورقةً/ أخرجتُها من سلّة القمامة/ فحين حاولت أن أعيد تسويتها/ بكفيّقفزت من بين أصابعي/ خيول ظمأى/ ونساء مسبيات/ وغاباتٌ تلهث محترقةً بالأرواح/ ومدنٌ جدرانُها/ لطخاتٌ دماء/ وأزقّتُها راياتٌ محترقات/ وبابها نشورٌ الى الاين/ ارتبك المعنى بين شفتي/ وانبرى قلميصارخاً:أيها الواقفُ بين النور والظلام".
إلى آخر القصيدة التي ينطلق فيها الحس الشعري إلى أعلى حدوده، ويحلق الخيال يطوف حراً في فضاء القصيدة.
وهذا هو الحال في قصيدة (حياةٌ في رغيف) التي نجد فيها هذه المساحة في الفضاء الشعري أكثر رحابة رغم اختزال المفردات إلا انها وحدها تعطي أكثر من معنى، وتعبر الحدود الضيقة، وتكسر الأطر المحدودة: "خيمٌ نزقة تصارع ريح السموم/ ومطرٌ رعافه صدأٌ موغل بالخوف/ نصوصٌ مسروقة من كتاب منحول/ وانهار (بصرى)/ دجلةٌ في مخاضه الأخير/ الفرات في دموع مقبرة السلام/
وطبولٌ/ دفوفٌ/ صنوجٌ/ هوادج/ جوقات تنشد أمسها/ ونسوة حافيات إلا من أقدامهن/ وطريق شائك يخنق الفرات فجراً/ وعسس يقظون".
وهكذا وبعد مرورنا على تجربة الشاعر في مجموعته الشعرية (فوق غابة محترقة) نكتشف أن العملية الابداعية في تطور مستمر، وأن السياق الفني الذي اتبعه الشاعر في فن صناعة القصيدة النثرية، هو عملية تحديث لنمط حديث، رغم اختيارنا لنماذج قليلة من قصائده، التي ضمت تنوعاً مشهوداً، ونصوصا شعرية مختلفة، أطلق فيها الشاعر العنان لمخيلته الشعرية الخصبة، ليحلق في فضاء شعري مميز، حافل بالمفردة الشعرية المنتقاة، بكل حرية ومن دون قيود، أو حدود، لا عائق يحد هذه الانطلاقة.