شيء من حقائق الواقع وليس من مفترضات المخيلة، وهو أن الطريق بين نقطتين: بيتك وعملك يحتوي على مئات النقاط التي يمكنها أن تشكل ثقافة مكانية رائعة لو تأملتها ونقلتها من موضعها الطبيعي وحولتها إلى صور بالكلمات أو بالألوان، ستجد أن هذه المسافة مليئة بكل ما تطمح إليه من أفكار.
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
هذه ليست افتراضات أقولها هنا، بل هي حقائق لوقائع بعضها نراه والقسم الأكبر منها لا نراه، ما يؤكد لنا أن أعيننا البشرية ليست إلا مجسات حواسية مهمتها التقاط ما ينسجم وطبيعية بنيتها البايولوجية، انت لا ترى ما وراء عشب الطريق، ولا ما وراء ماء السواقي، ولا ما تحت سكك حديد الترام، ولا ما في أحجار البناء، ولا في نوافذها العليا، كما انك لا ترى ما يقابلك من أجساد البشر والاحياء، كل الذي نراه هو سطح الأشياء أن لم نقل جزءها الظاهر فقط، ما يختفي وراء السطح تدرجات من الأعماق تحتاج إلى معاول تنقيب كي نتعرف على آليات اشتغالها وكيفية مبناها ودلالة معانيها. الرؤية العيانية الافقية مسبار للسطوح، مع علمنا أنها غير قادرة أيضا على التأمل مع كل السطوح، بل تلك التي تكون في مستوى التقبل لما فيها.لو نظرت للشيء في طريقك وانت ذاهب للعمل ورأيته مرة أخرى وانت آيب من العمل لن تجده نفسه في كلتي الرؤيتين، فكيف يمكنك أن تؤلف نصاً عن الأشياء المتحركة بين الأزمنة والأمكنة تنتقل من حالة السكون الى الحركة، ومن البرودة إلى الحرارة، ومن الإهمال إلى الوعي بها، ولا تكتب عن كل هذه التحولات التي تعني تاريخ الأشياء، ما يجعل القارئ يتعرف على المتغيرات التي أضاءت الشيء وغيرته وجعلته أخضر بعدما كان أصفر وابيض وأسود ثم اختفى بعدما كان حاضرا، لاشك أننا بحاجة في نصوصنا إلى أكثر من لغة نجسد بها تحولات الشيء ونحن نمر به أو يمر بنا، فلغة اليوم ليست لغة الأمس، ولن تكون لغة الغد، وعلى المؤلف ان يختار اللغة التي تحوي الأزمنة كلها.
سقت هذه الظاهرة لسببين: الأول ألا نثق بالرؤية الواحدة للشيء الذي سنكتب عنه، لا تأتي الكتابة عن الشيء الا بعد عديد من الرؤى له ومن زوايا مختلفة وبكيفية متغيرة، وهذا يعني ان الشيء بحركته الزمانية والمكانية يمتلك لغات بصرية لايمكن احتواؤها بنظرة عابرة او برؤية احادية.
الشيء الثاني عليك وانت تنظر للأشياء ألّا تنظر إليها برؤيتك الخاصة، ستفقد الأشياء اجزاء من هويتها عندما ينظر إليها نظرة تاليفية مفردة، عليك ان تنظر وانت تصاحب نظرة سابقة لها كي تتجاوزها برؤيتها الحالية لها والا اصبحت رؤيتك اولية يمكن ان تكون مادة لرؤية غيرك، لا ينظر للاشياء بنظرة مفردة ايضا ،لا بد من اجتماعية الرؤى لها كي نتمكن من معرفة تنوعها وحالاتها واوضاعها ومسالك اشتغالها، والافضل ان تصطحب الرؤية الثانية معك وتكون مختلفة أومخالفة لرؤيتك فالاشياء لا تبين على حقيقتها برؤية ايجابية واحدة وباتجاه ايديولوجي واحد، من هنا تكون المسافة التي تمر بها يوميا بين بيتك عملك حقلا من الأفكار والتصورات التي بامكانها ان تخلق لك عالما مختلفا عن عالمها الواقعي المباشر.