في الطريق الى الذات
في الطريق إلى عمان،كان ذلك في عام 1991، واجهت الشيء الذي حاولت الفرار منه،وهو كيف يمكنني العيش في طرقات متعرجة، ملتوية، حادة، ومتصاعدة، وغير مستقرة على هيئة أوشكل؟، وحقيقة السؤال انبثق يوم كنت في كويسنجق في ذكرى وفاة عبد القادر كوئي رحمه الله، شعرت وأنا أحلق في سماوات الجبال الموصلة أن جسدًا آخر يتلبسني، أما أنا فما زلت في أرض بغداد المنبسطة. في عمان الجبلية عادت الذاكرة بي لتلك الصومعة المعلقة في جبال العراق" كويسنجق" لأجد نفسي ثانية في اضطراب الجسد واللغة والحياة اليومية، وعليّ عندما أتخذ قرارًا أن أتحمل تبعاته، وماأن بدأت ممارسة العيش في هذه البيئة الجبلية، حتى اكتشفت أن سكانها تشبه طرقاتها، من الصعوبة أن تفهم الشخصية الأردنية من خارج بيتها. فالعراقيون الذين سافروا قبلي، أو الذين جاؤوا بعدي، لم أجد بينهم من يشعر أن عدم وضوح الشخصيات هي نتيجة لعدم وضوح مسالك المدينة،وأن زاوية مخفية في الطرقات الجبلية بإمكانها أن تكون ربيئة أو فخًا، هكذا بدأت حروب الجبال فالبيئة سلاح آخر للمقاتلين. ولأنني ابن البصرة وبغداد لم أتعود الرؤية المتقطعة مع البيوت والجدران والجبال والشعاب المتفرعة،بدأت أسير بعينيَّ القدمين، وعليّ أن أغيَّر من كيفية الرؤية للأشياء. ومن أول أسبوع بدأت أسير بقدمين مستعارتين، هما قدما صديقيالمرحوم حازم مبيضين،حين استعرت خبرته ليدلني على مفاوز المدينة/ الجبل. فالمدينة غول لايمكن ترويضها إلا بالسيطرة على طرقاتها.
أول اكتشافاتي المكانية لعمان؛هي سلطة أرصفتها الحجرية، تشعر وأنت تسير أن الأرصفة قوى بوليسية جاثية على الأرض تراقب القدمين وتحد من سرعتك، وتمنعك التفكير بغير ما تراه على الأرض، هذه السلطة الجاثية الماسكة القدمين، حجرية البناء، وحجرية اللسان معًا. واذا ما رافقت الأرصفة التواءات الطرق، تشعر أنك في المدينة المتاهة، أو كما يسميها فوكو سلطة المراقبة، ومن الصعوبة أن تأتلف، وانت ابن السهل، مع أرصفة حجرية متغيرة الأبنية، حادة وعالية تمنعك من تحليق عينيك، خاصة في الفجر، حيث يقظة الأشياء، لرؤية ما خلف الستائر.كيفما يكن الناس تكن مدنهم، مقولة لشكسبير في إحدى مسرحياته، وعندما تواجه تضاريس مدينة جبلية وشخصيات بتضاريس مغلقة وحادة، وطرائق عيش صعبة، تشعر أنك أمام قضيتين عليك التعايش معهما: الأولى من الصعوبة أن تفهم الشخصية الأردنية من جلسات قليلة خارج بيتها، كما لو أنك تقرأ كتابًا وتكتفي بصفحته الأولى، فأنت لاتعرف الطريق إلى بيتك إلا تحت اضاءة المصابيح، وأية عتمة ستنقلك لطرقات مبهمة، الصداقة في المدن الجبلية طريق مبهم لا تفتح مسالكه من أول طرقة على شباكه، عليك أن تتمرن على الرؤية المحددة للأشياء وعلى اقتصاد الكلام، فالكثير من الستائر تصنعها التواءات الطرق واللسان. الثانية: أن الزمن كفيل بازالة بعض العقبات سواء في الطرق أو في الشخصيات، عندما تتاح الفرصة لك أن تدخل بيوت الناس الجبليين، لتجد أن ما هو خارج البيوت غيره عما هو داخلها، هنا، حيث تبدأ مسالك الزمن الهادئ تتسرب إليك خلال الضيافة، فمائدة البيوت الصباحية من الغنى النباتي ما تجعلت تعيش لحظات الفلاحة الروحية: زعتر، وزيتون، وجبنة، ومكبوس، وخبز حار، ومقدوس، ومسحب، وبقدونس، وفول، وأحجام من الخبز المغطى بالخضرة، مصحوبة بطراوة اللسان وحديث مشبع بانسانية لا توصف، وحديث مغطى بدخان الشاي والميريمية، عندئذ ترى وجهًا آخر للمدينة الجبلية، هكذا شعرت في كردستان أيضًا، لا تجد في ذلك صعوبة عندما تفكر أنك في بيت كنت تبحث عنه، وبمرور الوقت تجد نفسك وقد تسربت إليك انطباعات هادئة من الجبل، أن قوة تضاريسه هي من أجل سهولة العيش، وعليك أن تفهم هذه المعادلة المربكة، حين يكون الاستقرار مصيدة إذا اقتنعت أن هذه الأمكنة هي الملجأ الأخير لك. هكذا شعرت في عمان: أن قساوة الأمكنة تصنع طيبة لأهلها. كما شعرت ذلك في دمشق، المدينة الخضراء بناسها وطعمها وبيئتها، أنها دفء رحم يمكنه أن يحتويك، وأن دمشق ستسرق بغداد مني لتبقيني بلا ذاكرة، فالحياة قرينة أمكنة العيش، وعليك أن تتخلى عن بناء أي كيان جديد اذا اكتفيت بمدن الخضرة والجبال.
1-12-2020, 05:36
المصدر: https://www.ina.iq/117097--.html
العودة للخلف