محمد صابر عبيد
يمكن معاينة إشكاليّة الأكثريّة والأقليّة بوصفها إشكاليّة ذات طبيعة أيديولوجيّة أكثر منها ثقافيّة، لأن ما تنتجه هذه الإشكاليّة من حساسيّة تمثّل فرصة أيديولوجيّة كبيرة لاستثمارها وتشغيلها بأعلى كفاءتها وطاقتها لأجل خدمة الأيديولوجيا، في توجّهاتها القصديّة للهيمنة على مقدرات المجتمع وفرض أجنداتها عليها في سياق أو آخر بما يضمن استمرارها، وربما وُلِدَت الديمقراطيّة بوصفها حلا لهذه الإشكاليّة في ردم الفراغات الإنسانيّة التي تتخللها، فالإنسان بصفته الإنسانيّة المجرّدة من أي صفة ينبغي أن يحصل على حقوقه كاملة ضمن معيار وطنيّ في كلّ بلد، لا يتعامل مع مواطنيه إلا على أساس المواطنة الصرف، لتبقى الخصوصيّات الدينيّة والمذهبيّة والعرقيّة والقوميّة والإثنيّة عاملا من عوامل تعزيز صفة المواطنة وتثميرها لا العكس.
إشكالية الأكثرية والأقلية هي إشكالية سلطة وهيمنة أكثر منها إشكالية كثرة وقلّة بالمعنى الحسابيّ الرقميّ الدقيق، فحين تتشكّل السلطة وتهيمن تصبح هي الأكثرية حتى وإن كانت في الحساب العدديّ أقلّ قياساً بالفئة الأخرى المحكومة الأكثر عدداً، بمعنى أنّ الأكثرية ترتبط بالسلطة وأدواتها وقدرتها على التأثير والفعل وفرض الأنموذج.
إذ تتحوّل بفعل ذلك إلى مُنتَج رئيس ومركزيّ للقوانين التي تُسخَّر عادة لخدمتها على حساب الآخر، فيصبح "الفرد الواحد" المنتمي للسلطة تحت حراسة هذه القوانين وحمايتها معادلاً لـ "بضعة آلاف" من جمهور الآخر/الأقليّة، لأنّ كلمته فوق كلمتهم، ويده فوق أيديهم، ورأيه هو الصحيح والنافذ مهما كانت طبيعة هذه الكلمة أو اليد أو الرأي وكيفيتها ومحدودية خطابها، وبصرف النظر عن آراء الآخرين مهما بلغت من علمية وموضوعية وصحّة وقوّة، فالعلمية والموضوعية والصحّة والقوّة هي دائماً من حصة فرد الأكثرية وعلى مجموع الأقليّة أن يرضخ ويستسلم ظاهراً، ويحقد ويسعى إلى الانتقام عندما تحين الفرصة لاحقاً.
إشكاليّة الريفيّ والحضَريّ إحدى هذه الإشكاليّات التي تحضر بقوّة في المجتمعات العربيّة عموماً، والمجتمع العراقيّ منها على وجه الخصوص، إذ يتمترس كلّ من الريفيّ والحضَريّ داخل مركزيّات مهيمنة يدافع فيها عن أنموذجه ضدّ الآخر، إذ يتسلّح فكر الريفيّ بما يعتقده ثباتاً وأصالة في مقابل ما يعتقده الحضَريّ من تغيّر وانتقال وحركة في تحوّلاته الفكريّة، وفي حين ينتمي الحضريّ للمهنة فإنّ الريفيّ ينتمي للعشيرة، وغير ذلك من المسلّمات التي يرى كلّ طرف منهما ميزات نوعيّة يتفوّق فيها على الآخر، داخل سجال عقيم لا ينتهي؛ لكنّه يضع المجتمع الحضريّ بحكم عوامل الهيمنة والسلطة والإدارة ورأس المال في طبقة الأكثريّة، بينما تدفع هذه العوامل الريفيّ كي يكون على الرغم منه في طبقة الأقليّة.
إشكاليّة العلاقة بين الريف والمدينة تمثّلها سلسلة معقّدة من التشكيلات المتناقضة التي يصعب حلّها ثقافياً، إذ لا غنى للمدينة عن الريف ولا غنى للريف عن المدينة، علاقتهما علاقة تكامل بالغة الضرورة والوجود والفعل والإنتاج، فعندما تُحاصَرُ المدينة لأيّ سبب من الأسباب تلجأ إلى الريف وتستنجد به بوصفه نوعاً من الخلاص، غير أنّ الحضريّ في الأحوال الطبيعيّة غالباً ما يوجّهُ نظرةً دونيّةً إلى الريفيّ ويسعى إلى استبعاده وطرده من المدينة، وعلى هذا النحو ظهر مصطلح "ترييف المدينة" الذي يمثّل نقداً حضارياً لاذعاً لإمكانيّة تفوّق المظاهر الريفيّة على حساب المظاهر الحضريّة المدنيّة، وكانت قضية السخرية من الريفيّ والتندّر عليه تمثّل وسيلة من وسائل الدفاع السايكولوجيّ عن مدنيّة المدينة، وعدم منحه فرصة للمكوث فيها خوفاً من تغييرات ديموغرافيّة تضيع فيها صفات المدنيّة والتحضّر لصالح نظريّة الترييف.
يتطلّع الريفيّ دائماً نحو فضاء المدينة بوصفه الحلم الأكبر الذي يمكن أن يمثّل خلاصاً من حياة الريف الصعبة، حين تتعثّر أمامه سبل الحياة ولاسيّما في السنوات التي تبخل فيها الطبيعة على أبناء الريف وتحرمهم من كَرَمِها، لكنّه حلم عصيّ على التحقّق بفعل عوامل كثيرة ذاتيّة وموضوعيّة تجعل إمكانيّة العيش في المدينة ربّما أكثر صعوبة من تحمّل شظف العيش في الريف، فهو على المستوى الذاتيّ يشعر إزاء المدينة بالعُقدة الحضرية ويدافع – مضطراً- عن علاقته بالريف، بإعلان الأصالة والانتماء إلى العشيرة ونقد هشاشة الانتماء لدى أهل المدينة، إذ ينتمي معظمهم للمهنة التي يعمل فيها ولا وجود لانتماء عشائريّ أصيل كما يتصوّر، في حين يرى الحضرَيّ أنّ التمسّك بتقاليد العشيرة على هذا النحو المبالَغ فيه ليس سوى تخلّفاً في عالم يتّجه نحو العولمة، بحيث تبقى هذه الإشكاليّة ذات طرفَين متناقضَين يتخندق كلّ طرف منهما داخل قناعات ضيّقة، تعامل الآخر بوصفه عدوّاً محتمَلاً أكثر منه صديقاً
ممكناً.
لا شكّ في أنّ المجتمع العراقيّ هو مجتمع ريفيّ "بدويّ" بالدرجة الأساس حتّى في مدنه وحواضره، وأغلب المدن العراقيّة ذات مرجعيّات ريفيّة طغتْ على ثقافتها وممارستها الاجتماعيّة المختلفة، بحيث يمكن وصف كثير منها على أنّها قرى كبيرة أكثر منها مدن حقيقيّة تتّسم بتقاليد مدنيّة على الأصعدة المعروفة حضريّاً، وربّما أسهمت العقود الأخيرة فعلاً في ترييف أكثر المدن العراقيّة على النحو الذي لم يَعُد للمدنيّة فيها إلا القليل، ولعلّ دراسات سوسيوثقافيّة عميقة يمكن أن تكشف عن تغيير عميق في إشكاليّة الأكثريّة والأقليّة، يمكن أن تضع الريفيّة في طبقة الأكثريّة والمدنيّة في طبقة الأقليّة. على نحو بالغ الظهور والبروز والوضوح.