النجف الأشرف- واع- علي جاسم السواد
تصوير حيدر فرمان
على صوت المآذن في مسجد الكوفة تصحو الأزقة القديمة معتقة بذكريات شيوخها وعجائزها، وبين بيوتات قديمة تتشابك خيوط الفجر معلنة عن صباح موشح بقدسية المكان، يبدأ الحاج أبو ميثم أحد السكان القدامى يومه متجه صوب سوق الكوفة الكبير، قاطعا بحركته البطيئة درابين وشوارع تفوح بعبق حضارة مشبعة بالصلوات، مكان لطاما كان شاخصا في قلوب الناس من كل حدب وصوب، بين تلك الطرقات القديمة يسير الحاج أبو ميثم وعيناها ترنوان صوب ذكريات الطفولة وعنفوان الصبا التي قضى معظمها في هذا السوق القديم، وبينما نقف قرب محله ننتظر وصوله لإجراء حوار معه كونه من أقدم العاملين في هذا السوق بدت ملامحه تتراءى من بعيد، وهو يشق طريقه بين زحمة المارة تارة والوقوف لإلقاء التحية على أحد أصحاب المحلات تارة أخرى.
اقترب الحاج أبو ميثم من مكان عمله وبعد إلقاء التحية، بدأ بحركة أتعبها الزمن بفتح محله ونحن نراقب هذا الرجل الذي يحمل ملامح تشبه عراقة هذا السوق، جلست قربه، وأخذت ذاكرته المتعبة تستعيد الحكايات لتروي لوكالة الأنباء العراقية (واع) ما حفظته عن سوق الكوفة، قائلا: "هذا السوق يعد من أقدم الأسواق في النجف الأشرف ويسمى أيضا السوق (المسقف) تم إنشاؤه قبل أكثر من مئة عام، ومنذ ذلك الوقت يرتبط السوق بذاكرة النجفيين لما تحتفظ ذاكرتهم من مواقف في كل محل من محال السوق".
التنوع الاجتماعي
ويتابع الحاج أبو ميثم حديثه وهو يعتصر ذاكرته قائلا: "ظل السوق محافظا على مكانته في قلوب الناس على الرغم من وجود أسواق قديمة تم إنشاؤها عبر الزمن فضلا عن وجود العديد من الأسواق الأخرى في المدينة وكذلك وجود مراكز تجارية في مدينة النجف، فالسوق يضم العديد من الفروع منها سوق البزازين وسوق الصاغة وسوق الحبوب وسوق الحدادين وكذلك سوق النجارين والذي يتميز بصناعة الزوارق".
وأضاف، أن "السوق في بداية إنشائه كان مميزا، لأنه كان على شكل خانات صغيرة ثم تطورت حركة البناء فيه وأصبحت تلك الخانات دكاكين صغيرة يختص كل واحد منها ببيع بضائع معينة، والسوق تتميز بالتنوع الاجتماعي حيث كان السوق مشهورا بمحال اليهود الذين كانوا يعملون بصياغة الذهب وكانت تلك المحال تسمى (عكد اليهود) ومعظم هؤلاء اليهود غادروا المدينة منتصف خمسينيات القرن الماضي، ولكن بعض أماكن السوق لا تزال تسمى حتى الان بأسماء الديانة اليهودية وكان اليهود يعيشون مع المسلمين بشكل طبيعي في أجواء هذه المدينة المعروفة بالتعايش السلمي".
وتابع، أن الطراز الذي شيد على أساسه السوق، لازال مشيدا طبقا للعمارة العثمانية وحتى عندما تم تطويره ظلت الهندسة المعمارية التراثية محافظة على رونقها ".
حقبة تاريخية
غادرنا الحاج أبا ميثم وتجولنا بين أروقة السوق وتوقفنا أمام محل لبيع وتصليح الساعات والتقينا بصاحب المحل نجم الجزائري وهو من أصحاب المهن القديمة في السوق، والذي تحدث ل(واع) عن ذكرياته: "أن سوق الكوفة الكبير يمثل حقبة تاريخية مهمة في تاريخ المدينة، وخلال السبعين عاما الماضية شهد حملات تطوير مستمرة وجميع تلك الحملات بجهود ذاتية من قبل أصحاب المحال، وفي عام 2008 قررت الحكومة المحلية إحالة السوق إلى مستثمر وهي آخر مرحلة تطوير شهدها وكان من المقرر البدء بأعمال التوسعة في السوق إلى 12 مترا لكن التنفيذ لم يطابق المخططات إذ تم توسيعه إلى 10 أمتار وأقل في بعض الخانات بحجة رفض الأهالي بيع بيوتهم القديمة"، ودعا الجزائري الحكومة المحلية إلى الاهتمام بهذا السوق لما يحمله من طابع تراثي وحضاري وتجسيده لحقبة تاريخية مهمة من تاريخ العراق الإسلامي".
أسواق أقدم من مدينة
بين خانات السوق المتناثرة، يشعر من يدخلها للوهلة الأولى بعمق حضاري، أنشأها المسلمون قبل 1400 عام، في كل ركن من أركان السوق حكاية وذكريات دثرتها الأزمنة ولم يبق منها إلا أطلال، الباحث حمودي جلاب من أبناء مدينة الكوفة قال ل(واع)، "إن عمر مدينة الكوفة يقرب من 1400 عام وأكثر بقليل ولازالت أماكنها وأسواقها تحضى بذات الأهمية"، موضحا "أن أهمية أسواق مدينة الكوفة جاءت بسبب اتخاذ المسافرين المدينة، مرافأ للسفن والزوارق عندما كانت مدينة الكوفة عاصمة الدولة الإسلامية، وكان هناك أسواق صغيرة على شكل خانات يتخذها المسافرون مكانا للراحة من تعب السفر".
وتابع جلاب، "استمرت أهمية أسواق الكوفة إلى الآن كونها تمثل مركزا تجاريا مهما حتى لبعض المحافظات المجاورة"، لافتا إلى "أن أسواق الكوفة تأسست قبل إن تبنى مدينة النجف الأشرف".
وأضاف، أنه "وعلى الرغم من عراقة أسواق الكوفة وخاصة سوق الكوفة الكبير إلا أن بعض أبناء المدينة يفضلون التبضع من الأسواق والمراكز التجارية في مركز المحافظة وهذا السلوك يعد جديدا على سكان الكوفة الذين كانوا في السابق لا يتبضعون إلا من أسواق الكوفة".
لم تنته رحلتنا في أزقة الكوفة وأسواقها بل حط رحالنا أمام مسجد الكوفة الذي يعد واحدا من أقدم المساجد في أرض الرافدين والذي يعود عمره إلى حقبة خلافة الإمام علي (عليه السلام) الذي اتخذ من مدينة الكوفة عاصمة للدولة الإسلامية، وهذا المسجد العظيم منح ميزة لتأسيس الأسواق والخانات عبر مراحل زمنية مختلفة والتي كانت ومازالت محطة لكل الزائرين لمدينة النجف الأشرف وإلى جامع الكوفة.