اعتلى هذا العنوان كتاباً طريفاً حقاً لـ “بول أوستر” عنوانه: The Invention Of Solitude وضع له توصيفاً أجناسياً هو “مذكرات”، وخصّصه للحديث عن والده الذي حاول “بول” استعادته من تحت التراب وصياغته نصيّاً (أي اختراعه) على نحو سرديّ سيرذاتيّ – غيريّ، وبما أنّ الجوهر السرديّ للكتاب أو المحتوى الكتابيّ له يتعلّق بموضوع “العزلة”، وهو من الموضوعات الشديدة الإثارة لدى الأدباء جميعاً بوصفه حالة أدبيّة إبداعيّة بما تنطوي عليه من خصوصيّة مكانيّة وزمنيّة، فإنّه يوفّر للمبدع ظروفاً مثاليّة للتفرّغ الذهنيّ والمزاجيّ لأجل اختراع أو ابتكار النصّ المطلوب.
يمكن القول إنّ موضوع “الاختراع” أو “الابتكار” بما يحمله المفهوم من معنى مركّز وخاصّ جداً، قد لا يصحّ إسناده إلى “العزلة” من جهة أنّ العزلة كيان زمنيّ ومكانيّ وحدثيّ موجود أصلاً، ولا يحتاج من الكاتب سوى اتخاذ قرار اللجوء إليه واللوذ به كي تبدأ عملية البحث عنه والسعي إلى اكتشافه في مكانٍ ما من هذا الوجود، فالعزلة حالة موجودة في أكثر من مكان وزمان ولا تشترط على من يحتاجها سوى البحث عنها بقصديّة للوصول إليها، ومن ثمّ الإقامة فيها على النحو الذي يناسب التجربة التي سيوكل إليها احتضانها وتوفير الأجواء المناسبة لنموّها وصيرورتها.
العزلة حالة ترتبط بسلوك خاصّ وواضح وغامض في آن، “خاصّ” لأنّه يفارق كلّ الممارسات السلوكية المعروفة للآخرين بحيث يتفرّد وينسجم مع ذاته انسجاماً مطلقاً، و”واضح” لأنّه بطاقة الوضوح التي يمتلكها يحوز لدى الآخرين هذه الصفة ويُعرفُ بها على أعلى مستوى تداوليّ ممكن، و”غامض” لأنّ سبب العزلة يظلّ طيّ الكتمان واستعصاء الجواب ليس بالنسبة للآخرين المحيطين برجل العزلة فقط، بل حتّى له نفسه حين يُخفق في تبرير حالة العزلة التي يعيشها على نحو حجاجيّ مُقنِع، لتبقى قضية العزلة على نحوٍ ما إشكاليّة، وكلّ حالة عزلة تختلف عن الأخرى ولا يمكن أن تنتظم في فضائها السببيّ أو السلوكيّ أو المنهجيّ كي تشبهها في النهاية.
تتجلّى في حساسيّة البناء العام للكتاب رؤية مخالفة بعض الشيء للتوصيف الأجناسيّ الذي وضعه المؤلّف لكتابه “مذكرات”، لأنّ النصّ تنكّبَ مهمة رصد شخصيّة “الأب” رصداً نوعياً خاصاً له صدى عميق وواضح في مرآة الابن الراوي، وكأنّ الابن الراوي “بول” يخترع صورة تخدم فكرته عن أبيه كي يروي ما يشاء عنها على وفق منهج الكتاب ورؤيته ومقصديته، لذا جاء السياق السردي فيه على شكل نصّ “سيرذاتـ-غيريّ” يمزج بين السيرة الغيريّة للأب والسيرة الذاتيّة للراوي، تحضر فيها شخصية الأب على نحو مركزيّ أساسيّ مهيمن، وشخصيّة الراوي الذاتيّ “بول/الابن” على نحو مصاحب وموازٍ تقريباً، فضلاً عن شخصيّة “الجد” في السقف الأعلى من السرد، وشخصيّة “دانيال/ابن الراوي بول” في السطح الأسفل من السرد، بحيث يتحوّل المشهد السرديّ في الكتاب إلى مشهد عموديّ هابط من الأعلى إلى الأسفل على أربع طبقات، وهو يمكث طويلاً في الوسط بين الأب الذي هو جوهر الفعل السرديّ والابن الراوي المصاحب لشخصيّة الأب في حضورها وغيابها.
لعلّ كثيراً من الممارسات السلوكية التي سلّط عليها الراوي عدسة كاميرته وهو يرصد حركات شخصيّة الأب، يمكن أن تنطبق على آباء كثر لا يشعرون بحاجة إلى الانتباه نحو محيطهم الضيّق “الأسريّ” وما حوله، إذ كان الراوي “الابن” يلتقط ما يريد من نماذج سلوكيات الأب ويحشدها في سياق واحد يبدو وكأنّه يمثّل الشخصيّة تمثيلاً كليّاً حقيقيّاً، لكنّ الرواية هنا تأتي من طرف واحد في حين يغيّب الطرف الثاني تماماً في مشهد يروي خلافاً واضحاً بينهما، على نحوٍ لا يريد فيه الراوي الابن أن نعرف عن سيرة أبيه سوى ما يراه هو وينقله لنا برؤيته وعدسته وعلينا أن نصدّق ذلك ونؤمن به، وهي معادلة تبدو ناقصة وتبرّر كثيراً ردّة الفعل تجاه نشر الكتاب من أفراد ومؤسسات ذات علاقة وجدت أنّ الكتاب يسيء للأسرة، ولا نملك نحن القرّاء دفاعاً كافياً ومناسباً لصالح الكاتب بل على العكس ربّما يتعاطف بعضنا مع شخصيّة الأب وقد بدت أشبه بالضحيّة على يد الراوي
الابن.
لا يمكن معاينة العزلة بوصفها سلوكاً سلبياً هدفه الانعزال عن المجتمع والخلود للانفراد بالذات والراحة والهدوء، بل هي في أشكال مهمة منها تمثّل رؤية خاصّة في الوجود والأشياء يستحيل عليها أن تتجلّى على النحو المطلوب من دون انفراد مطلق بالذات، خلوّاً من ضجيج الآخرين وصخبهم وزحمتهم والتباس سلوكهم، في العزلة نفيٌ تامٌّ للخارج وانتماء مطلق مع الداخل يسهم في إنتاج أشياء رائعة لا يتسنّى لها الولادة في أحضان الثرثرة، بمعنى أنّ العزلة كائن وجوديّ متماهٍ مع ذاته في قلعة حصينة يخترقها النور ولا تصلها الضوضاء، بما يجعلها قادرة على توفير أعلى قدرٍ من الهدوء الخصب الكامن في الأشياء بلا منغّصات، لتتحوّل فيه اليد إلى معجزة، والعين إلى رادار، والقلب إلى محيط، والرغبة إلى فيضان، والنصّ البسيط الصغير إلى ملحمة، والسلوك الطبيعيّ ذو الأداء السلس الخاطف إلى أسطورة.
بوسعك أن تكتب سيرتك الذاتيّة بحريّة كاملة وتتصرّف بحياتك وذاكرتك داخلها كما تشاء ولن يحاسبك أحد على ما تقول أو ما تريد أن تقول، لكنّ ذلك لا يتاح لك تماماً حين تتصدّى لسيرة غيرك “حتّى ولو كان أباك أو ابنك”، إذ لستَ حراً فيما ترغب بقوله بقدر ما تكون خاضعاً لما هي عليه الشخصيّة تلك فعلاً، وليس بوسعك التصرّف بحياته في نصّ سيرغيريّ حين تكون لك مقاصد خاصّة تريد فرضها على الفضاء الكتابيّ، بما لا يجعلك قادراً على ارتجال هذه الشخصية أو ابتداعها أو ابتكارها أو اختراعها، يا تُرى هل فعل “بول أوستر” ذلك وهو يكتب سيرة أبيه على شكل سرديّ سمّاه “مذكرات”؟
وبما أننا اعترضنا جزئياً على إسناد العزلة لمفردة “اختراع” في عنوان الكتاب “اختراع العزلة” لعدم التناسب والملاءمة، فيمكن تأويل ذلك بأنّ فعل الاختراع ذهب نحو صورة الأب داخل العزلة على يد “بول/الابن/الكاتب” أكثر من العزلة نفسها، وثمّة مظاهر عديدة في المتن النصيّ تحيل على ذلك بجدارة.