التدبيرُ والبخلُ
بغداد - الصباح
تتكشّف اللغة العربية في كثير من مفرداتها ذات الطبيعة الثنائيّة المتضادّة على مستوى اللغة أو الدلالة أو الصورة أو غيرها عن صراع ثقافيّ وفكريّ وأيديولوجيّ، ويعكس هذا الأمر ثراء اللغة ودقّتها التعبيرية وغناها الروحيّ المعبِّر عن المواقف والأشياء والقضايا، ومن هذه الثنائيات العاملة بقوّة في هذا الحقل ثنائية (التدبير والبخل) بوصفها ثنائيّة قائمة على صورة أدائيّة متشابهة من حيث طبيعة الفعل والممارسة، لكنّ كلّ طرف فيها ينطوي في ذلك على دلالة تكاد تناقض الدلالة الأخرى أو تُنتِج معنى مضاداً، وممّا تركه لنا الموروث الحكائي الشعبي قصّة نعرضها هنا لتوضيح إشكاليّة هذه الثنائية من منظور حكائي سيميائي دالّ.
تقول الحكاية إنّ مختار إحدى القرى النائية قرّر مع مجموعة من وجوه القرية بناء مسجد على نفقة الأهالي كي يجتمعوا على الصلاة في مكان واحد جامع يضمّهم، إذ يؤدّون شعيرة صلاة الجماعة فيه ومن ضمنها طبعاً صلاة الجمعة ويتداولون في الوقت نفسه بأمور القرية وحاجاتها ومتطلباتها وشؤونها، وطلب من شخص يعمل معه زيارة بيوت القرية كلّها كي يجمع منهم ما بوسعهم التبرّع به وتقديمه للمساعدة في هذا العمل الخيريّ الذي يُعنى به الجميع ويفيدون
منه.
وفعلاً دار الرجل على بيوت القرية بيتاً بيتاً وجمع ما استطاع من أموال قبل أن يستكمل عمله في آخر بيت في أطراف القرية
، غير أنّه قبل أن يهمّ بطرق الباب تناهى إلى سمعه حوار ساخن بين الأب وابنه دعاه للانتظار ومحاولة فهم ما يجري
، كان الأب يقرّع ابنه بعنف على أنّه أشعل سيجارته من عود كبريت في الوقت الذي كان فيه موقد النار أمامه، وكان يمكنه استخدام جمرات الموقد لإشعال السيجارة من دون أن يخسر عود كبريت بلا معنى، فضحك الرجل مع نفسه وقال إذا كان هذا الرجل يُثقل على ابنه في الكلام لأجل عود كبريت كيف سيتبرّع بمبلغ كبير لبناء المسجد، تركه وقفل راجعاً إلى المختار ليسلّمه ما جمعه من مال فقد أصيب بالإحباط واليأس من محاولة الحصول على شيء من هذا الرجل بعد أن فوجئ بهذا الحوار
البخيل.
سأله المختار بعد أن تسلّم منه ما جمعه من تبرّعات أهل القرية: هل مررتَ على أهل القرية جميعاً فأجابه بالموافقة لكنّه استدرك وأخبره بقصّة الرجل الذي لم يطلب منه بسبب ما سمعه من حوار بينه وبين ابنه، فقال له يا ابني ينبغي علينا أن نخبره بالأمر كي لا يعاتبنا فيما بعد وتكون له حجّة علينا، وإذا امتنع عن الدفع عند ذلك نتجاوزه وتسقط حجّته، فعاد إليه وأخبره بالموضوع وهنا فاجأه الرجل حين سأله: كم جمعتَ من أهل القرية جميعهم، فصرّح له بالمبلغ وهنا أخرج الرجل مبلغاً يساوي المبلغ الذي جمعه وسلّمه له في كرمٍ ما بعده كرم، استغرب رسول المختار جداً وما لبث أن صارحه بالحقيقة، فقال له الرجل: لا يا أخي، كلّ قصّة لها ميزان خاصّ بها، ما فعلته مع ابني يسمّى تدبيراً في مكانه وليس بخلاً بدليل أنّني أعطيتك لبناء المسجد بقدر ما حصلت عليه من بيوت القرية كلها، مما يدلّ على أنني لستُ بخيلاً بل مدبّر، وثمّة فرق بين الأمرين علينا ضبطه بما يجعل المفردات خليقة بمعانيها على نحوٍ من الدقّة والكفاءة، ولولا أنّني أمتلك صفة التدبير على هذا النحو لما استطعتُ أن أدفع لك هذه المبلغ حين جاء وقته
المناسب.
عرفنا مدناً وشعوباً لا حصر لها عانت من حصارات متعددة ومتنوّعة فاضطرّت للتدبير من أجل إطالة عمر مقاومتها حيث تستمرّ مدداً طويلة أحياناً، وفي حالة عدم التدبير يمكن أن يموت بشرها من الجوع ونفاد المؤونة اللازمة للمقاومة، ومن المدن الشهيرة التي تعرّضت لحصارات قاسية على مرّ التاريخ مدينة "الموصل"
، وبسبب اضطرارهم في هذه الحصارات للتدبير والاقتصاد والتقتير إذ طالت بعض الحصارات واستمرّت سنين عديدة
، التصقت بهم شعبياً صفة "البخل" فصارت لفظة "موصليّ" تعني "بخيل"، لكنّ الحقيقة غير ذلك تماماً، فقد عرفوا في هذه التجارب الحصاريّة المريرة أهمية المؤونة وقيمة كلّ شيء قابل للتصرّف على مراحل
، وشملت المؤونات الأساسية التي لا غنى عنها من الطحين والسكّر والملح والزيت وما شاكل، حتى تبقى أطول مدة ممكنة باستخدامات قليلة تدوم فيها المؤونة طويلاً، فهذا تدبير في حالات تاريخية واجتماعية واقتصادية خاصة يقابلها البخل حين يقتّر المرء على نفسه وأهله وذويه وهو في حالة يُسرٍ لا عسرٍ، وثمّة فرق كبير بين الحالين لا يخفى على
أحد.
البخل أن يكون لديك مال كثير ولا تنفق منه على نفسك وعلى من هم بمعيتك حتى تظهر نعمة الله عليك، كما يقتضي خطاب الشريعة والأصول والمنطق والحياة الحرّة الكريمة، لا أن تبقى تكنز الذهب والفضّة ولا تنفقها في مناسباتها الصحيحة إلى أن تموت وتترك المال لـ (نائمي الضحى) كما يقول المثل الشعبيّ، والبخل على هذه الحال صفة مذمومة تُنقِص من رجولة الإنسان، وتجعل البخيل المسكين يجمع الدراهم فوق الدراهم ولا ينفق منها شيئاً في نوع من الهوس الممقوت عندما يتحوّل المال عنده إلى دين
مقدّس.
وقد أفاض الجاحظ في عرض حكايات البخلاء في كتابه الشهير (البخلاء) إذ لم يترك شاردة أو واردة حولهم إلا وأتى عليها سارداً وساخراً ومعلّماً، وعلى الرغم من السخرية التي هيمنت على فلسفة مصنّف الجاحظ هذا غير أنّه سطّر ملحمة حكائيّة مذهلة في هذا السبيل، لا تتوقّف عند حدود البخلاء أنفسهم على الرغم من أنّهم يمثّلون البؤرة المركزيّة السرديّة في الكتاب
، لكنّه يتحوّل باتجاه مقاربة أحوال المجتمع من زوايا نظر مختلفة يمكن أن يكون مجالاً حيوياً لعلم الاجتماع وعلم النفس وعلوم إنسانيّة أخرى، تحلّل الشخصيّة الفردية والجمعيّة وعلاقاتها وقضاياها وتجلّياتها وإشكالاتها على نحو أصيل
وعميق.
30-01-2020, 07:49
المصدر: https://www.ina.iq/101379--.html
العودة للخلف