انسجاما مع رؤية غرامشي للاستعمار، بمفهومه الفني، نرى انه كان حدثا فاصلا في تاريخ منطقتنا، وان الايجابيات التي تحققت للشعوب خلاله تعادلت مع سلبياته، وان كانت الاخيرة قاسية في بعض مفاصلها ... الاستعمار، يعني ان تعمّر بلادا، باهلها حاجة الى ذلك. وان تستنطقهم بلغة محفّزة على العطاء، لاسيما حين تكون عدة المستعمر حضارية، كما حصل مع الاستعمار الاوروبي للبلاد العربية مطلع القرن الماضي
لاشك ان مفهوم السيادة الوطنية، يتكئ على خلفية اخلاقية ومصلحية، يرى فيها اناس أية منطقة او بلاد، انهم مالكو ثرواتها، بعد ان باتت حقا مكتسبا لهم بحكم استيطانهم فيها لزمن طويل، رسمت خلاله بيئتها اشكال وجوههم وتركت اثارها في اعماقهم وصيّرت اخلاقهم ، الاستعمار الاوربي حين أتى ارض العرب لم تكن لهم قبله دولة موحدة، ولم تكن لهم سيادة على ارضهم، فهم كانوا من رعايا السلطان العثماني وخاضعين لدولة الخلافة او موزعين بين ولاتها ، من هنا نستطيع القول: ان المستعمر الاوروبي، ايقظ الكامن الحضاري في نفوس وعقول ابناء هذه المنطقة، لانه جاء في سياق لحظة تاريخية، كان العرب خارج المعادلة فيها تماما. وكان عليهم ان يمسكوا بتلابيب تلك اللحظة، ولو بأيد مرتعشة وعيون غشاها طويلا غبار الصحراء، فتاهت نظراتهم بين آثار قديمة، تحكي قصة حضارة او حضارات علاها الصدأ، وغيبها النسيان الطويل في العقول والنفوس ، الاستعمار الاوروبي جاء لينهي هذا السبات، وان كان هذا ناتجا عرضيا تحقق لنا على هامش مشروعه هو، فخلق وعيا جديدا، استنبته التعليم الحديث والآلة الجديدة التي حرثت ارضا ظلت بورا لقرون. واخرج الاستعمار من بواطنها الكثير الذي اصبح لاحقا محل تنازع بين المستعمر واهل الارض، او بين الاستعمار السياسي والاستعمار الفني، فكان هذا بمثابة بداية جديدة للعرب، حين اكتشفوا ذواتهم وخيراتهم وارادوا ان يديموا زخم لحظتهم الخاصة، فصنعوا تاريخا جديدا لهم، كان من بينه، كفاحهم من اجل التحرر والانعتاق الكامل، فسمي هذا بتاريخ الحركات الوطنية، بكل مارافقها من اجتهادات سليمة وخاطئة، وهذه ايضا من مخرجات الفعل (الاستعماري) وايقاظاته التي مهدت لتحول شامل، ترافق مع تحول كوني، عمّ العالم في ما بعد، ووجد العرب انفسهم يتفاعلون معه بنسب متفاوتة ويحققون ذواتهم، وان باتوا متفرقين اكثر بحكم الحدود الصلبة التي اقامها المستعمر ( السياسي) بين امصارهم التي تمازجت وتداخلت فيها ثقافات متعددة ومتقاربة نسبيا، قبل نحو ثلاثة عشر قرنا او اكثر، لتغدو لهم دولة مدت جناحيها طويلا نحو الشرق والغرب، قبل ان تندرس كنتيجة لاستبداد الحكام، الذين ضاعوا لاحقا بين حوافر الخيول الغازية، لتصبح دولتهم العظيمة نتفا منهكة ومشلولة، او هكذا كان حال العرب قبل قدوم المستعمر الاوروبي، الذي تخادموا او تخادم بعضهم معه على امل الخلاص، ولعله جاء اخيرا، وان بشكل لا يخلو من تشوهات، كان عليهم ان يزيلوها، بعد ان امتلكوا ارادتهم نسبيا، لكنهم لم يفعلوا هذا حتى اليوم!
هزة أرضية قرب الحدود العراقية - السورية