�ربيل- واع
يثير أسئلة مفتوحة، يريد للعقل العربي أنْ يفكر وينفتح على تجارب الآخرين لا أنْ يبقى أسير ما يُعرف أو ما قيل له، لأنَّ الركود الذهني هو الذي أنتج داعش وطالبان، أما التنوير فهو من قدَّمَ البيروني وابن سينا وابن النفيس كما يقول، هذا هو هدفه.. هو ضد إدمان صورة معينة، التخوف من إعادة النظر فيها. وهو هنا يقدم الشك والنقد كوسيلة لمناقشة التاريخ. وفي جلسة ممتعة وصريحة في معرض "أربيل الدولي للكتاب" الدورة 13، أنار فيها زيدان بعضاً من المناطق المعتمة في ذهن القارئ العربي لتعارضها مع الكثير من مسلماته العقائديَّة والمعرفيَّة.
ضيف معرض "أربيل الدولي للكتاب" في دورته الثاثة عشرة، في يومه الثالث، الروائي يوسف زيدان في جلسة حوار مفتوح قدمها وأدارها الدكتور علي المرهج، ونقلته جريدة "الصباح" التي تصدر عن شبكة الاعلام العراقي.
س: هل استخدمت مفهوم القصص القرآني كما استخدمه خليل عبد الكريم؟
- تعرضت في كتاب اللاهوت العربي لهذه الفترة .. ان الإسلام وعبر آيات السور المكيَّة أعاد تكوين مفهوم النبوَّة الموجود لدى اليهوديَّة والمسيحيَّة والأخيرة اعتمدت البنيات العقائديَّة ولذلك يطبع العهدان معاً. يتألف العهد القديم من أسفار موسى الخمسة ثم أسفار الأنبياء الكبار، ثم أسفار الأنبياء الذين جاؤوا في المرحلة المتأخرة. وهنا يمثل العهد القديم الاعتقاد. أما الأناجيل الأربعة فضلا عن أعمال الرسل فمثلت العهد الجديد، وكلا العهدين يمثلان الديانة.
تطرح التوراة صيغة للنبوة يصعب على أي عاقل أن يستسيغها، في سفر التكوين يهدي إبراهيم (ع) زوجته مرتين لفرعون مصر وللحاكم العربي في فلسطين. وفيه أيضاً كيف احتال يعقوب النبي على أخيه عيسو واشترى منه النبوَّة بطبق عدس. عندما ترجمت التوراة في الاسكندرية الى اللغة اليونانية، رأوا انها نصوص هزليَّة، حتى جاء أحد عباقرة اليهود القدماء اسمه فيلون السكندري وطرح طرحاً ذكياً، معتبراً انها قصص وليست وقائع، بل هي رموز، فنوح وإبراهيم وعيسو لا يمثلون أشخاصا حقيقيين. وبعد فيلون جاء الإسلام وطرح القرآن صورة للأنبياء احتفظ فيها بالأسماء ولكن الآيات المكيَّة طرحت الوقائع بشكل لم يتعرض فيها القرآن إطلاقا لمسألة إهداء إبراهيم لزوجته بل نزع عنه يهوديته بنص الآية "ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً".
لقد طرح الإسلام والقرآن الكريم صورة راقية للأنبياء، والنبي موسى القرآني أكثر رقياً من النبي موسى التوراتي لأنَّ الأخير مستعد لسفك الدماء ولكنه لم يفعل، فقام بذلك تلميذه يوشع بن نون وتحت عنوان حروب الرب، بعملية إبادة لثلاثين قرية. هذا الكلام ليس صدمة بل هو إضاءة وكثيراً ما يحتاج الأمر الى إخراج العقول من الخرافة.
س: ما هي الإضافات الفلسفيَّة التي قدمها العرب للعالم؟
- قدموا الكثير.. لم تكن أوروبا عندما نهضت تستطيع أنْ تقرأ آرسطو إلا عن طريق شروح ابن رشد. وهناك الكثير من كتابات آرسطو لا يوجد لها أصل يوناني، ونُشرت اعتماداً على النص العربي. مثال آخر، حدث في الاسكندريَّة، في الزمن الهيليني، خلطٌ كبيرٌ بين آراء افلاطون وآرسطو بسبب كُتبٍ نُسبت زوراً الى سقراط مثل كتابي "التفاحة" و"اثولوجيا"، ووقع الكندي والفارابي في هذا الخلط، ولكن ابن سينا استطاع بذكائه الشديد أنْ يفصل بين الافلاطونية والارسطية وبالتالي عندما ترجمت أوروبا في عصر النهضة أعمال ابن سينا وصلت الصورة واضحة لهم، وعلى ذكر ابن سينا فإني رأيت له في روما كتاباً مطبوعاً العام 1575، وكتب ابو قراط وكالينوس مطبوعة العام 1590. وهنا كان إسهام الإسلام واضحاً. مثال آخر، كتاب الاخوة الثلاثة في الهندسة وهو كتاب الحيل لبني موسى بن شاكر وأعمال ابن النفيس التي ترجمت. فضلاً عن التطويرات العلمية الكثيرة في مجال الطب. وكما قال رشدي بن راشد: "لولا الرياضيات عند الطوسي وعمر الخيام ما أمكن الانتقال من الرياضيات اليونانية الى الأوروبية.
س: حقيقة الجدل الذي أثرته عن صلاح الدين الأيوبي؟
- لدي نصوص تؤكد أنَّ صلاح الدين الأيوبي لم يكن كردياً.
س: ماهي الأصول الفكريَّة التي تبني عليها أفكارك؟
- الاعتماد على مصدر واحد سبب مباشر في تكوين الأوهام في الأذهان، أما اتساع الرؤية الممهد لاتساع الأفق لدى الفرد والجماعة فهو أنْ يقرأ في أكثر من مصدر.
علينا ألا نرتعد، وننظر في ما كتبه علماؤنا من أمثال الزبيدي وابن منظور، وننظر أيضاً في ما كتبه الآخرون بلغات مختلفة، ثم نطور الأفكار وفقاً لذلك.
س: تكتب الرواية بحرفة ومصدر. أي تمتلك رؤية كاملة عن الرواية قبل أن تكتبها.. والسؤال أين الإبداع من ذلك؟ فهل كتابة الرواية صنعة أم هي ملكة إبداعيَّة خالصة؟
- قلت بالفعل عندما أكتب الرواية أرى آخرها وأولها في الوقت نفسه، ولذلك بدأت رواية النبطي بعبارة تقول "هذه الرواية كتبت نهايتها قبل بدايتها وقد قدت النهايات البدايات". في الرواية أفسر أشياءً غائبة عن وعينا التاريخي. الشخصية الروائية التي تنظر باندهاش الى ما حولها لا تدرك دلالة النهايات، ولكن القارئ المعاصر يستطيع أنْ يستنبط الدلالات من كلامها ويكون صورة ذهنية.
تكتنز الكتابة الروائية جهداً هندسياً ضخماً.. ولن أذيع سراً إذا ما قلت إن روايتي "عزازيل" التي حازت جوائز عربيَّة وعالميَّة وترجمت للغات عدة، لم أجد أي صعوبة في كتابتها، لأنَّ الشخصيَّة الرئيسة الراهب "هيبا" هو تجلٍ آخر عني، هو من صعيد مصر وذهب الى الاسكندريَّة ودرس فيها، وهو راهب مهتم باللاهوت والطب.. وأنا كل هذا. كنت أكتب بلسان الراهب هيبا. أما شخصية ابن سينا في روايتي التي ستصدر قريبا فهو شخصية فعلية وأنا شغوف به منذ زمن البدايات، وأحفظ كلامه وأعرف المناطق المجهولة والمحيرة في تاريخ حياته، وفيها أعيد بناء ابن سينا الإنسان والمفكر والفيلسوف، فكان تحدياً مجهداً، استغرقت الكتابة فيها عامين وهذه مدة طويلة بالنسبة لي، لأني أكتب كل يوم.
وفي الرد على السؤال، شرعت برواية لم تكتمل بعد، هي رواية "حاكم" وهي مؤجلة منذ سنوات، أستطيع أن أقصَّ عليك الآن فحوى الرواية، وأعطيك بنيانها، لم أكتب فيها صفحة كاملة حتى الآن، كلها مسودات، وفيها ثلاث شخصيات هي: الحاكم، وست الحسن أخته، وابن الهيثم الذي جاء الى مصر بدعوى من الحاكم. والرواية محكيَّة على لسان واحد من ذرية عمر ابن العاص الذي كان يعيش في مصر، وبداياتها تقول "لن أنسى المرة الأولى التي دخلت فيها البلدة المجاورة المسماة القاهرة، هي ليست بلدة وإنما سجن كبير مفتاحه بيد السجين".
أنا أعرف، كيف سيكون البنيان الهندسي للرواية، ولكن كيف نتجت هذه الصيغة لا أعرف. أنا أكتب بخط يدي، وهناك الكثير من المسودات، فبالتالي الكتابة الأدبيَّة قصصيَّة كانت أم روائيَّة فيها هندسة أو معمار النص وهذه الإشراقات تأتي أثناء الكتابة وتنبثق في الذهن انبثاقاً لا ضابط له، مثلما قال جلال الدين الرومي: "المعنى في الشعر كحجر المقلاع ليس له اتجاه محدد".
س: أنت صاحب نظرية (تقديم العقل على النقل)، هل ما زلت تتبنى هذه النظرية؟
- لا أقول بتقديم العقل على النقل فقط، بل أقول بوضوح، بتقديم العقل على الدين، لأنَّ مناط التكليف هو العقل، هل المجنون مطالب بتدين؟ هناك قاعدة فقهيَّة أصوليَّة تقول "العقل مناط التكليف" وبالتالي فالعقل يُقدم على الدين والسياسة وعلى كل شيء. أنتج الإنسان هذا التطور بالعقل. إنَّ العقل قبل كل شيء.
س: لو كنت أنت القارئ، أياً من رواياتك ستقرأ؟
- أتضايق جداً، أنا أعيد الكتابة كثيراً قبل إرسالها للطبع وأخلف أكواماً من المسودات، والناشر يحاول اختطاف الرواية مني، وأنا أعيد النظر فيها لأرى الشكل ولا أستطيع أبداً قراءة كتاب أو رواية كتبتها. في إحدى المرات وتحديداً في مهرجان برلين، اختاروا مقاطع من روايتي لأقرأها، لم تكن مترجمة بعد، وهنا اكتشفت أنَّ هناك فارزة يجب أن توضع بعد هذه الكلمة، ويجب أن تستبدل كلمة (أنظر) بكلمة (ألمح)، وبقيت أتعارك مع نفسي غاضباً عليها.
هناك عبارة وردت لعماد الأصفهاني تقول: "إنه لم ير أحداً كتب كتاباً ثم عاد إليه إلا وقال لو غيرت هذا لكان أحسن ولو عدل ذاك لكان يُستحسن"، عندما أشعر أنَّ النص قد نضج واكتملت أركانه أدفعه للنشر إنما الرضى عن النص يبقى ناقصاً.
س: هناك تشابه بين روايتك "عزازيل" ورواية "اسم الوردة" لامبرتو ايكو في أكثر من ثلاثة مقاطع ما ردكم؟
- لقد امتدح امبرتو ايكو نفسه، وهذا ما نشر في الصحف الإيطاليَّة، رواية عزازيل. إنَّ موضوع رواية عزازيل عن الرغبات الإنسانيَّة وانشغالها بالخالق والبحث عن الحقيقة، أما رواية "الوردة" فلم أقرأ منها إلا سبع صفحات وقد قلت هذا الكلام لايكو نفسه عندما التقيت به، إذ اصطدمت بنص لاتيني فتوقفت، إنما قرأت عنها وهي تتحدث عن واقعة اغتيال داخل دير في العصور الوسطى، وهذا يعني قرابة الألف سنة بين الأحداث التاريخيَّة في الروايتين. لقد طبعت الترجمة الإيطاليَّة من عزازيل سبع مرات، وبقيت سنتين من أعلى الكتب مبيعاً في إيطاليا.. ثم يأتي صحفي ويقول مسروقة من امبرتو ايكو، أو إنها مسروقة من كاتب انكليزي مع العلم إنَّ عزازيل فازت في انكلترا بجائزتين، فهل هذا معقول؟.