أ.د عامر حسن فياض
هل الليبرالية المعاصرة كمنتظم فكري سياسي تنوعت وتكاملت أم انقسمت واختلفت اتجاهاتها؟ من الاستعجال أو التسرع الاكتفاء بتفسير أو تحديد ماهية الليبرالية المعاصرة ككل بدلالة الضد النوعي لها ككل فقط والمتمثل بالكليانية أو الشمولية، بكل اتجاهاتها الشيوعية والفاشية والنازية.. لأن الليبرالية المعاصرة كمنظومة فكرية احتضنت اتجاهات ثلاثة رئيسية هي: الليبرالية الفردانية المطلقة (الليبرتارية) والليبرالية المساواتية والليبرالية الجماعاتية.
وتتجسد العناوين الأساسية الليبرتارية، بالدولة القزمية التي لا تتدخل في المجال الاقتصادي (دعه يعمل دعه يمر)، وفي حرية السوق ورفض السياسة الضريبية، وتفضل أولوية الحق الطبيعي للفرد في الحرية، لتصبح الحرية سلبية ومن دون التكامل بين الحرية والمساواة، لتصبح العدالة الاجتماعية في ظل هذه الليبرتارية مجرد سراب!
لقد انشغل في إيضاح هذه العناوين والانحياز لها والدفاع عنها الاقتصادي الامريكي (فون هايك)، الذي أكد ضرورة الدفاع عن النزعة الفردية، وعن فكرة تحررية السوق باعتبارهما مجالاً للحرية الفردية والملكية الخاصة كنظام تلقائي رافض لكل أشكال التدخل من قبل الدولة.
وجاء تلميذه الامريكي (ملتون فريدمان)، ليكمل مشوار الاتجاه الليبرتاري، بوصفه من أشد المؤمنين بالاقتصاد الحر، الذي جعل من الحرية الاقتصادية، عنده، شرطاً لبلوغ الحرية السياسية!
أما الليبرالية المساواتية المعاصرة، فقد انتقدت أفكار الاتجاه الليبرالي الليبرتاري المعاصر، الذي أعطى للحرية قيمة عليا، من دون اهتمام بالقيم المصاحبة لها مثل قيمتي المساواة والعدالة، فقد رفض الليبرالي المساواتي الشهير (هيل غرين) الحرية السلبية، واستبدلها بالحرية الإيجابية، مركزاً على اجتماعية الفرد، بدل الفردانية الأنانية وعلى الحرية المقيدة بالقانون محل الحريات المرتبطة فقط بالملكية الخاصة.
ومن بين المساواتين (رونالد دوركين)، الذي جعل من المساواة مفهوماً أكثر مركزية من ليبرالية الليبرتاريين، واعتبر الحرية جانباً من جوانب المساواة.
واذا كان الليبرتاريون والمساواتيون يختلفون حول بعض القضايا كالعدالة الاجتماعية، مثلا غير أنهم يتفقون حول أولوية الحرية الفردية، وهذا يبرهن على اهتمامهم بالنزعة الفردانية.
ومن هنا جاء الجدل بينهما وبين الجماعتين حول ايهما أهم الحرية الفردية والحق الفردي أم أولوية الخير والصالح العام على الاهتمامات الفردية.
عليه حدد الجماعاتيون مفهومهم للحرية انطلاقاً من مفهومهم للمجتمع، خلافا لليبرتاريين والمساواتين.
فالفرد عند الجماعاتيين كائن اجتماعي بطبيعته، ولا يحيا إلا في نطاق المجتمع، الذي يولد فيه ومن غير المجدي أن يبحث عن حريته خارج هذا الاطار، لذلك فان الحرية تحتاج إلى ظروفٍ اجتماعية لتحقيقها.
وعلى هذا الأساس حدد الجماعاتيون مفهومهم للحرية، وهو مفهوم نسبي وليس مطلقا، لان اساس الحرية وحدودها ومدارها يتوقف على البنى والهياكل والتنظيمات الاجتماعية، فضلاً عن تقابلها مع حرية الدولة في سن قوانين تنظيم المجتمع وحرية الفرد.
كما يرى الجماعاتيون أن للحياة المشتركة ثمنا ينبغي أن يدفعه الأفراد داخل مجتمعهم، يتمثل بجزء من حرياتهم، وذلك بالتزامهم بقيم المجتمع لكي يضمنوا تحقيق اهدافهم ومصالحهم، وفي المقابل، يتم ضمان عدم اعتداء الآخرين على حقوقهم، وحرياتهم بقدر ما هم ملتزمون بالشروط نفسها.
وبخلاف هذا التحديد للحرية المنظمة تتدهور القيم في المجتمع، وهذا يعني التخلي عن فكرة أسبقية الحق على الخير، التي يروج لها الاتجاهان الليبرتاري والمساواتي، ويترتب على ذلك التخلي ايضا عن فكرة حياد الدولة، وضرورة تدخلها في المجال الخاص وعليه تصبح المداولات والقرارات المشتركة جزءاً أساسياً من ممارسة الحرية.
إن الجماعاتيين عبروا عن مخاوفهم الفردانية لأنها فكر يقوم على الأنانية ومنح المصلحة الخاصة أولوية على الصالح العام، ومن خلال إعطاء الفرد حق الملكية الخاصة وحرية اكتسابها، وهذا النوع من الحرية مصدر تهديد لقيم المجتمع، بسبب عدم مبالاة الفرد بالشؤون العامة، وتأثير ذلك سلباً في مستوى المشاركة.
فالفرد الحامل لكامل حريته يتسبب بالانحطاط الاخلاقي على رأي المفكر الجماعاتي (مايكل ساندل) الذي يضيف التأكيد على ان الحرية لا تأتي من الاختيار والاستقلال الذاتي للفرد، ولا من حياد الدولة، لكنها تأتي من الحكم الذاتي وعليه بدلاً من وضع الحق قبل الخير، يدعو (ساندل) إلى وضع الصالح العام قبل الحق الفردي في الحرية.
ويتحد موقف المفكر الليبرالي الجماعاتي (تشارلز تايلور) مع رأي (تايلر) ضد الفردية الذرية والحرية المطلقة، فكتاباته ضد الفردانية هي دحض لتحررية السوق الحرة لليبرتاريين، وهو يرى أن الفهم الصحيح للحرية هو أن الحرية لا تقتصر على قدرة الفرد القيام بما يحلو له في غياب العوائق المادية والقانونية، بل تتمثل بإرادة الفرد وقدرته على معرفة نفسه، وتخطي العوائق الداخلية كالخوف مثلاً، كما تعني ايضا تحمل المسؤولية بشكل واع، والتخلص من الخوف والجهل.
وينبغي ألّ ايحرم الأفراد من الافاق الأخلاقية، التي تعطي معنى لحياتهم الاجتماعية، لأن من المستحيل أن يفهم الإنسان هويته، من دون العودة إلى القواعد الأخلاقية التي تضفي المعنى عليه.
وعليه رفض (تايلور) زعم الليبرتاريين والمساواتين تقديم الحق على الخير، لتثبيت المبدأ الليبرالي للحقوق والحريات الفردية.
والجدير بالذكر أن أطروحة التعددية الثقافية جاءت لتكمل المشروع الفكري للاتجاه الجماعتي، من خلال الاعتراف بحقوق جماعات الأقليات الثقافية والعرقية والدينية، والجدل حول هذا الاستكمال من عدمه مستمر حتى يومنا، لا سيما حول عبارة الاعتراف بثقافات الأقليات وصلتها بالاستقلال والحرية والمساواة والمصلحة العامة يثير الجدل والنقاش حول ضرورة الاعتراف من عدمه.
لقد تبنى الاتجاه الفكري الليبرالي الجماعاتي التعددية الثقافية من خلال التأكيد على أهمية التنوع الثقافي وضرورة صياغة سياسات الهوية، التي تتضمن الاعتراف بالهويات الثقافية والقضاء على التهميش والتمييز والاضطهاد، الذي تعاني منه الأقليات الثقافية، لهذا طالبوا بالحماية الخارجية أمام هيمنة الاغلبية من خلال الاعتراف بحقوقهم وحرياتهم.
اذا كان الليبراليون عموما يؤكدون مبادئ الحرية والمساواة، بدلاً من الحماية المباشرة لجماعات الاقلية وإعطائهم حقوقا خاصة، فإنَّ حمايتهم ستتم بطريقة غير مباشرة عن طريق ضمان الحقوق والحريات الأساسية، لجميع الافراد داخل مجتماعتهم، بينما يرى انصار التعددية الثقافية وأبرزهم (كميلكا) أن أعطاء مثل هذا الحق للافراد يؤدي منطقيا إلى تقويض ثقافة المجتمع ويهمل حقائق التنوع العرقي والثقافي والديني، ويرى أن الحقوق الفردية نموذجية وتليق بالفردية في المجتمعات الغربية، في حين أن المجتمعات غير الأوروبية تهتم اكثر بمجموعة من الحقوق والحريات تتناسب مع تقاليدهم وانتماءاتهم الثقافية، ولهذا سعى (كميلكا) إلى تحقيق توازن بين الحرية الفردية والانتماء الثقافي، اي إلى غياب الاضطهاد والتهميش بين مختلف الجماعات.
إن سياسة الاعتراف عند (كميلكا) تفترض أن مفهومي العدالة والحرية الليبرتارية، لا يتحققان بالشكل الصحيح من دون استحضار التعدد الثقافي الجماعاتي فيهما، لأن مبدأ الحرية عنده يهتم فقط بالمجال الخاص للفرد دون الاهتمام بالمجال العام، وهذا يغيب الحقوق الثقافية الجماعية، باعتبار أن هناك منظومة واحدة للعدالة، تنسجم مع تصور المجتمع تصوراً واحداً، في المقابل يتجاوز مفهوم الحرية في سياسات الاعتراف ذلك المفهوم للحرية، محاولا تجاوزها بحيث تشمل الحقوق والحريات للجماعة وليس للفرد فقط، وتزدهر سياسة الاعتراف عند ممارستها في المجال العام، فلا وجود للحرية خارج غياب الفضاء العمومي مادامت الحرية هي اساس هذا الفضاء، أي أن ممارسة الحرية في المجال العام هي شرط لتحقيق الحرية الحقيقية ونمط التفكير.
وهكذا يبقى الليبرتاريون والمساواتيون ينتقدون سياسة الاعتراف بحقوق الاقليات كجماعات تعددية ثقافية، على أساس أنها سياسة تتناقض مع حرية الأفراد، فإعلان وجود حقوق خاصة قد يحصر الأفراد في تفردهم، وينسبهم إلى مجموعة تتعارض مع حريتهم الشخصية، ويمنع أعضاء الجماعات من الوصول إلى الملكية الخاصة وممارسة حرياتهم الاقتصادية.
ويرى جماعة الاتجاه المساواتي سياسة الاعتراف، ويرون أن تركيز التعددية الثقافية على الاعتراف بهم يصرف الانتباه عن المصدر الحقيقي للظلم، وهو التفاوتات الاقتصادية والسياسية، ويرى المساواتون أن التعددية الثقافية تؤكد الفروق بين الأشخاص، بدلاً من انسانيتهم المشتركة، وهذا يؤدي إلى عدم استقرار المجتمع، لذا يجب الاعتراف فقط بتلك الثقافات، اذا شجعت الحرية والاستقلال الفرديين.