د. علي مولود فاضل
تندرج الكتابة في صيرورتها ضمن المواهب الذاتية، قبل أن تكون علماً، ودراسة، وضبطاً معرفياً؛ لأنَّ البذرة الأساس في هذه الحرفة تعود إلى الفطرة، فبعد أن يتعلّم الإنسان الكتابة والقراءة والمضي في توليفة الحروف إلى جمل وتراكيب تصاغ بأسلوب تعبيري نحو الموضوعات التي يروم طرحها إلى القراء، إذ تغدو مهنة وطابعا يتحلّى به محترفها.
وفي مراحل تطور الكتابة لدى الإنسان، واتِّساع رقعة التعبير لديه، وانفتاح نظرته إزاء الأشياء، تصبح الكتابة منفذاً جديداً للموهوب، وتتحول الألفاظ من جمل إلى تراكيب، لتصبح بعد ذلك مقاطع نصية، ومن ثَم تجتمع هذه المقاطع في نص متكامل يقدم فكرة مترابطة لموضوع ما.
إنَّ هذه المقدمات لا تبدو جديدة على محترفي مهنة الكتابة، ولا عميقة لمُمْتهني صنعة الحروف، ولا غريبة على نساجي الكلمات، لكنها ضرورية لمن يحب هذه المهنة ويريد أنَّ يلتحق بركبها، وأنَّ يحجز مقعداً بسيطاً فيها، ومن ثَم يتقدم في مقعده وخطاه حتى يصل إلى المقدمة أو قبل ذلك بقليل في محيط الكتابة الإبداعية غير منقطع النظير.
نحن في هذه الحرفة نحتاج إلى تعليم الهواة، والراغبين بالإنضمام إلى هذه المهنة كيف يكتبون، وكيف يصيغون أولى العبارات، والجمل، والتراكيب، والمقاطع النصية في إطار إبداعي متناسق.
الفكرة هنا تكمن في المُعلّم، وفي أسلوب تعليمه، وبالثقة التي يزرعها بالمتبدئ، وفي الوقت نفسه تتجلّى في إثارة ذات هذا المتعلم، ومنحه الأمان والطمأنينة عندما يشرّع في الكتابة، ويسِلّ قلمه من غمده، الذي بقي متردداً لسنوات وهو يخشى أنَّ يفشل أو يُحرج، أو أنَّ يخطأ ويجد السخرية والتوبيخ، كفان يصفعان خديّ فؤاده في تجاربه الأولى.
وأنا أكتب هذا المقال ليقرأه المتلقي، لاحظت أنَّ شريطاً من المواقف قد تمرَّ على بال القارئ، وأنَّ حسرة لاإرادية خرجت بتنهيدة نتيجة موقف سابق أو زجراً طال أحد المارين على هذه الكلمات؛ لهذا كتبت هذه الكلمات بعد مرور عشرين عاماً على ممارسة هذه الحرفة العظيمة، وبعد أنَّ استمعت إلى كم لا يحصى من العناء الذي طال مَن يرغبون أنَّ ينضموا إلى هذه المهنة ولا يجدون إحتواء لمواهبهم لأسباب عديدة، منها انانية، وأخرى نفسية، وبينها عُقَدية، وبضمنها خوفاً من المزاحمة أو رفضاً للمنافسة، وأحياناً إقصاء لدوافع غير إنسانية يطول شرحها.
هنا وجدت نفسي اكتب بأسلوب يحاكي الفئة الأهم في المجتمع -من وجهة نظري- هذه الفئة التي تحتاج أنَّ يُنزل إليها من الأبراج العاجية، والأخذ بيديها وأقلامها نحو ميدان الكتابة الرحب والمترامي الأطراف، وقد صادفت شواخص يعترضون على الكتابة المبسطة ويرون فيها ضعفاً أو ركاكة في طرح موضوع (دسم)، ويشكل عصباً رئيساً في فسح الحياة؛ ويرون أنَّ التعبير ينبغي أنَّ يكون جزلاً وعالياً في البناء وشاهقاً في المصطلحات والامثولات الرصينة، وأنَّ من يتصدى للكتابة وهو يحمل درجة علمية ينبغي أنَّ يبني نصوصه برصانة لا تشوبها بساطة ولا عفوية، ولا تتغشاها منمقات تشجيعية.
لكن في الركن الآخر، صافحت أحداقاً تبتسم، وقلوباً تهتف، وثغوراً يتزاحم النطق بها، وهي تبوح ليّ بأنَّ التنقيب عن الموهبة، أهم من استخراجها؛ لأننا إذا وجدنا الموهبة سنتمكن من استخراجها ببساطة، وهذه هي أسمى مَهمة للمعلّم، وأنبل غاية يمكن أنَّ يقصدها الكاتب، وارفع شحنة استنطاق يحتاج أنّ يقدمها الكُتاب إلى متلقيهم، حتى لو نُعت مكتوبنا بالتنمية البشرية، لكن التجربة سمحت لنا وبكل اريحية أنَّ نتقبل كل الآراء والانتقادات، وجعلتنا نركز على الموهوب لا على الناقد - مع الاجلال له- بيد أنَّ المواهب بحاجة إلى وقفة احتواء وتوجيه حقيقية، وأنّ نمنحهم الود الحقيقي والسكينة الذاتية، قبل أنَّ يهربوا إلى مجالات أخرى، ولن يعودوا.