حمزة مصطفى
يفترض ألّا يحمل أحد ذكريات طيبة عن « نكرة السلمان» ذلك السجن - المنفى الواقع في بادية السماوة، الذي ارتبط بتاريخ شائك في الحياة السياسية العراقية.
شخصيا ليست لدي معلومات كاملة عن هذا السجن، الذي دخل في ذاكرتنا السياسية كجزء من مرحلة التبست فيها العقائد بالأيديولوجيات منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
بالنسبة لأبناء جيلي فإن معلوماتنا عن هذا السجن « النكرة» ارتبطت بأسماء صار لها دور، سواء في التاريخ السياسي أو التاريخ الإبداعي للعراق.
ومن كثرة ترداد أسماء سياسيين وشعراء وادباء فإن « نكرة السلمان» ارتبط بشخصيات مثلت جزءا من تاريخنا أمثال مظفر النواب.
الفريد سمعان.
سعدي الحديثي.
مكرم الطالباني.
ناظم السماوي.
فاضل ثامر وسواهم من سياسيين وفنانين وأطباء، كانوا جميعا جزءًا لا يتجزأ من حقبة كان فيها الانتماء إلى الحركات السياسية مغامرة كبيرة، غالبا ما يكون ثمنها التنقل بين السجون والمعتقلات.
في الأسبوع الماضي قدر لي مع مجموعة من الزملاء المثقفين والأدباء والاعلاميين أن نزور سجن نقرة السلمان كجزء من البرنامج، الذي اعدته مؤسسة « خطى» التي يقودها الدكتور علاء الحطاب مع فريق عمل منسجم ومثابر في إطار تكريم مجموعة من الرواد من الأدباء والفنانين والصحفيين الرواد، من أبناء محافظة المثنى، حيث كان ضمن البرنامج هو زيارة بادية السماوة وسجن « نكرة السلمان».
المفارقة الجميلة و اللافتة في الوقت نفسه أن كان معنا في زيارتنا لهذا السجن واحد ممن بقي على قيد الحياة من شهود تلك الحقبة الستينية ممن امضوا نحو 6 سنوات في هذا السجن وهو الشاعر ناظم السماوي.
وناظم السماوي الذي كتب أجمل القصائد التي صارت فيما بعد من إجمل الاغنيات التي غناها أفضل المطربين العراقيين مثل « ياحريمة» التي غناها حسين نعمة و» عشك اخضر» التي غناها سعدي الحلي و» دوريتك» لياس خضر مع مجموعة أخرى من أجمل الأغاني لياس خضر.
وجود الشاعر الكبير ناظم السماوي معنا ونحن ندلف إلى ما تبقى من « قواويش» نقرة السلمان بقدر ما أعادته إلى الذكريات الأولى التي لا تزال طرية في ذاكرته، وكأنها ابنة اليوم وذلك بعد مرور 61 عاما على دخوله ذلك السجن، فإنها جعلتنا نستعيد معه كل الذكريات التي بدت بالنسبة لنا مرة لكنها بدت من أجمل الذكريات واحلاها بالنسبة حتى أنه قال لنا « هذا اليوم أجمل يوم في حياتي».
بالفعل كلامه في غاية الدقة فلو كنا ذهبنا لزيارة هذا السجن دون احد شهوده الكبار ومدوني سيرته شعرا لكان مجرد بناء متهالك لن نعرف عنه شيئا، حتى أن الزميل الدكتور طه جزاع الذي كان ضمن الوفد علق قائلا « لو لم يكن السماوي معنا لما كانت للزيارة أي خصوصية».
فيما تبقى من هذا السجن بقواويشه العشرة تدفق السماوي الذي يقترب من أعوامه التسعين تقريبا نثرا وشعرا، وهو يشرح لنا كيف كانوا ينامون. ويأكلون. ومتى يلعبون كرة قدم. وكيف كان سعدي الحديثي يغني لهم.
وكيف كان أحد أطباء السجن يجري عمليات صغرى لمواطنين بسطاء من أهالي القرى المجاورة لنقرة السلمان.
لكن اكثر ما لفت نظري هو عندما توقف السماوي أمام المكان الذي كان ينام فيه ضمن قاووش رقم 10، انه مسك الحائط وانهمرت دموعه، ثم التفت إلينا قائلا بعد أن تأمل بقايا الحائط المتهالك: هنا كنت أعلق ملابسي.
كان يشير إلى ثقبين صغيرين كانا مكانا.. لمسمارين لم يتبق منهما سوى ذكريات تأبى أن تغادر الذاكرة.