علي المرهج
في كتابه «تجديد الفكر العربي» طرح زكي نجيب محمود فكرة التجديد بوضوح، عبر محاولته ربط موضوعة «الأصالة» = «التراث مع «المعاصرة» =الحداثة، فاشتغل على موضوعات في التراث، لم تكن من صميم اهتماماته من قبل، فهو (داعية الوضعية المنطقية) بامتياز، بل وداعية اللحاق بالغرب، وتقليده في رسم خطوات التقدم لنا على وفق ما رسمها مفكروه، وقد كان ذلك بائناً في كتابه «خرافة الميتافيزيقا» الذي غير عنوانه بعد النقودات العنيفة لـ «موقف من الميتافيزيقا»
لتخفيف وطأة ما يحمله الكتاب من آراء نقدية قاسية ضد النزوع الميتافيزيقي والغيبي للعقل العربي.
وهناك كتابه «المنطق الوضعي» وكتب أخرى كثيرة أكدَ فيها منحاه العلمي والمنطقي المُنبهر بتحولات العقل الغربي ونزوعه نحو التمسك بالعلم والمنطق، ولكنه في كتابه «تجديد الفكر العربي»، حاول العودة للتراث والبحث فيه عما يؤيد نزوعه العلمي، وقراءة التجديد بنظارة غربية يرى فيها التراث العلمي إذ يقول « ينبغي أن نأخذ من تراث الأقدمين ما نستطيع تطبيقه اليوم عمليا، فيضاف إلى الطرائق الجديدة المستحدثة»، فنجده يقسم التراث إلى قسمين «المعقول واللامعقول»، وهذا ما بدا واضحاً في كتابه، الذي يحمل العنوان ذاته (المعقول واللامعقول).
ولكن هذه المرَة ليس برفض التراث برمته كما فعل في كتابه «خرافة الميتافيزيقا»، ورميه في زوايا العُتمة لعدم صلاحيته، إنما بالبحث فيه عمَّا يُثبت به نزوعه العلمي والمنطقي ونزعته التحليلية، فكانت للمعتزلة حصتهم، وللغزالي حصته في نقده لقانون السببية واقتراب (ديفيد هيوم) منه في نقده للسببية وقوله بقانون تداعي المعاني، ورفضه للقول بالتلازم الضروري بين العلّة والمعلول.
وبحثه في جهود (الجاحظ) و(ابن جني) اللغوية، وجهود (ابن رشد) الفلسفية وتأثره بالفلسفة الأرسطية بطابعها البرهاني ومنطقها العقلاني، أو ما أسماها «مرحلة تواصل النشاط النظري للعقل» بدقة عالية وربط للقوانين العلمية بعضها ببعض، وهذه المرحلة بدأت مع ظهور الفلسفة الإسلامية، واختار جابر بن حيان بوصفه من أوائل العلماء العرب، الذين اهتموا بالعلم وضع أسس لمنهج البحث التجريبي، فضلا عن اهتمامه بمبحث الألفاظ والحدود، وهذه من الأمور التي ركزت عليها الوضعية المنطقية التي ينتمي لها محمود، ثم درس إخوان الصفا وركز أيضا على اهتمامهم بالمعرفة الحسية، إذ يمكن مقارنة إنتاجهم مع معطيات الفلسفة المعاصرة، لاسيما في إصرارهم على النظرة العقلية الحسية وتأسيس المعرفة الصحيحة على أساس إدراك الحواس منطلقا في قراءته لفلسفة أخوان الصفا ولكل تراثنا الفكري من فلسفته التجريبية المنطقية، فما كان منسجما معها أخذ به وما كان مخالفا ضربه عرض الحائط.
الأمر الذي يهم محمود ذا النزعة التجريبية. وجريا مع اهتمامه بمنطق اللغة نجده يقف عند كتابات ابن جني.
أجد أن مقولة (التجديد بوصفه تجاوزًا) مُتحققة عند دعاة «التغريب» الذي يؤمن أصحابه بأن كل ما جاء من الغرب يجب الأخذ به، وإن سبب تخلفنا هو تمسكنا بالعادات والتقاليد الماضية والتراث القديم. أبرز من مثلهم: (يعقوب صروف) و (شبلي شميل) و(فرح انطون) و(سلامة موسى)، اذ وجد هؤلاء أن الأخذ بالتراث والتمسك بالماضي أدى إلى تخلف الفكر العربي وتراجعه. فقد تبنى أصحاب هذا الاتجاه «مواقفًا تتبنى التجديد مقولة، ولكنها تُخفي بين طياتها نزعة «نغريبية» تدعو إلى تبني الأنموذج الغربي المعاصر بوصفه أنموذج الخلاص الذي نُحقق «النهضة المرجوة».
لقد تخلص أغلبهم من تبني (النزعة انتقائية) وإن تخللت بعض كتاباتهم، فنجد هذه العودة للتراث وكأنها (من باب ذرَ الرماد في العيون)، كما فعل (فرح أنطون) في كتابه «ابن رشد وفلسفته»، إذ يقول (ألبرت حوراني) «إن السبب الذي دعا أنطون للاهتمام بابن رشد هو بتأثير من أرنست رينان عليه والذي كتب عن كتاب (ابن رشد والرشدية)»، ويقصد حوراني أن فرح أنطون أراد أن يؤكد ما ذهب إليه (أرنست رينان)، من أن لا وجود لفلسفة عربية، ولا فضل لهم سوى أنهم كانوا «نقلة» أو مترجمين، وواسطة لنقل التراث اليوناني!.
لقد كان (سلامة موسى) منبهراً بحضارة مصر الفرعونية، ولم يكن انبهاره بهذه الحضارة من باب ايمانه بضرورة العودة للتراث، بل لأنه ينظر لها بوصفها شكلت عمقاً فكرياً وحضارياً للحضارة الأوربية اليوم، وبالتالي، لذلك دعا إلى تجاوز التراث العربي والإسلامي واحياء (النزعة الفرعونية)، فألّف دفاعاً عن هذه الفكرة كتاب: مصر أصل الحضارة، لأنه يعتقد أن دراسة التاريخ الفرعوني إنما هو «في الحقيقة ليس تايخ مصر وحدها، بل هو تاريخ الحضارة الأولى للعالم»، ومصر هي أصل حضارة البحر الأبيض المتوسط، وهي منبع من منابع الحضارة الغربية تمثلت في مدرسة الاسكندرية.
بهذا المعنى نجد أن مقولة «تجديد» التراث ما هي إلا محاولة لتوظيفه وفق أيديولوجيا المفكر إما لغرض تجاوزة أو لتكريس مقولاته.