سوسن الجزراوي
مع الوصول إلى نهايات القرن التاسع عشر، ظهر على السطح مفهوم أو ظاهرة ولربما (اختراع) كما يحلوا للبعض وصفه، ألا وهو (البطالة)!
تلك الظاهرة الاجتماعية التي سادت أغلب المجتمعات في العالم، في اشارة إلى حالة من الكساد العملي وتراكم الأيادي (العاطلة) عن العمل.
وفي السياق ذاته، تشير الكثير من الدراسات التي اجريت حول هذا المفهوم، إلى أن أسبابها تعود عند البعض إلى خيار، أو تقليد لباقي أفراد المجتمع بخاصة من الشباب الذين اما لم يستطيعوا التأقلم مع موضوعة العمل وتحديدا الجسدي، أو أن الفرص لم تكن سخية أمامهم كي يستغلوها ويجعلوا من ذواتهم أفراداً منتجين ذوي منفعة لمجتمعاتهم.
ومع تقادم الازمنة ومروراً بمرحلة النهضة الصناعية، وصولا إلى الاكتشافات العلمية المذهلة التي طوّعت الآلة وجعلتها سندا كبيرا للعاملين عليها، صارت تلك الظاهرة، فردية، ابطالها هم الكسالى وساكنو الشوارع والسرّاق والمشردون ومدمنو الخمور.
ماعدا هؤلاء فإن المصانع والمزارع ومساحات البناء، عجّت بأفراد يمكن وصفهم على أنهم طاقة خلاقة لا يمكن الاستهانة بها إطلاقا.
وفي أشد المفاهيم قسوة عن حالة البطالة، هي ما أشارت إليه منظمة العمل الدولية في وصفها قائلة: العاطل هو كل شخص قادر على العمل، وراغب فيه، ويبحث عنه، ولكن دون جدوى.
تعريف مؤلم جداً، جعلني أصمت دقائق وأنا استعرض المئات من الشابات والشباب، الذين اجتهدوا بكل ما استطاعوا، حتى يمخروا من عباب المعرفة وكنوزها للوصول إلى نيل الشهادات الجامعية، سواء ما جاء عن طريق الجامعات الرسمية الحكومية، أو تلك الجامعات الاهلية التي اجهزت كلفة الدراسة فيها، على ميزانية الاهل، وهم يحاولون جاهدين، الوقوف مع ابنائهم لينالوا حصتهم من التعليم وبالتالي، يحصدوا ثمار هذا التعب وهم يرونهم في وظائف تليق بدراستهم.
وللأسف والمحزن جدا، أن تتحول تلك الأحلام إلى كوابيس مقلقة للعائلة اجمع، وهم يرون أن ابنهم أو ابنتهم، أما محاطون بمجموعة من تطبيقات شبكة الانترنت كاليوتيوب أو التيك توك أو أو أو، أو أنهم يعملون كباعة في المحال أو (سواق تكسي)، أو غير ذلك من الأعمال المهينة لعلميتهم، التي اجتهدوا للحصول عليها.
ولأن المسؤولية هنا تحديدا ليست فردية إطلاقا، بل إن طاقم هذا المشهد تتقاسمه الحكومة والأفراد على حد سواء، بل أحيانا تكون الحكومة هي المسؤول الفعلي عن هذه الظاهرة، وأقصد البطالة!
فتوفير فرص العمل بالشكل الذي يغطي أعداد الخريجين من جميع المنابر الدراسية، تقع على عاتق الدولة.
ولاتقف القضية عند حدود الوظائف الحكومية حسب، بل حتى عند ساحات العمل الاهلي الذي يشترط عليه أن يقدم فرص عمل متساوية وعادلة للشباب، سواء ما كان منه عملا خاصا وشخصيا يعتمد بوارداته على صاحب العمل، أو ماكان منه عملا استثمارياً واسع النطاق.
وتلعب الأعداد الهائلة من العمالة الاجنبية، دورا كبيرا في تضخم أعداد العاطلين عن العمل من العراقيين، فهذا الكم من العمالة، يزاحم الشباب في الكثير من الأشغال تحت حجج كثيرة، منها: إن الشاب العراقي لا يتقبل فكرة العمل كأجير أو منظف أو غيرها من الأعمال التي لا يتردد العامل الأجنبي عن قبولها.
وهذا العدد المهول من القادمين من خارج الحدود أصبح يشكل عبئا على الاقتصاد ايضا، لما يتم تحويله من عملة صعبة من الداخل إلى تلك الدول التي يتم استقدام العمال منها.
بمعنى آخر أن البلد متاح بكل مفاصله لتشكيلات معينة ممن يسمح لهم بالعمل، أو ممن تتاح لهم فرص العمل، وهذا بالتالي يؤثر سلباً في طموحات الشباب ويجهز على أحلامهم التي جندوا لها طاقاتهم كلها.
ولا أريد في هذا المقال أن أخوض في موضوعة المعامل المعطلة أو المزارع المصادرة، أو غيرها من المحافل الأهلية التي كان بإمكانها استيعاب أعداد هائلة من الشابات والشباب في ما لو تم تفعيلها بالشكل الصحيح، لأن هذا الموضوع أصبح واضح الغايات لدى الأغلب الأعم، فالمصالح الاقتصادية مع الدول تقدمت على مصلحة الشباب العراقي، وأصبح الاستيراد الخارجي هو الغالب على مسألة الصناعة المحلية.
ولأن البلد أصبح ساحة واسعة للاستثمار اليوم، فانا ارى ان تقوم الدولة بوضع ضوابط منصفة على المستثمر الاجنبي، تشترط فيها أن يتم الاعتماد على الايادي العاملة المحلية بنسبة لاتقل عن الخمسين بالمئة، وذلك لتوفير مساحات عمل واسعة للمواطن العراقي وبالوقت نفسه اعطاء قيمة اجتماعية للبلد.