علي المرهج
ما زال الفكر اليوتوبي بنزعته الحالمة في المثالية يهيمن على طبيعة الفكر العربي الإسلامي المعاصر، فحركة الفكر عندنا تكون ـ في الأغلب الأعم ـ من النظرية إلى النظرية، بل ولم يكن من النظرية إلى الواقع ولا حتى من الواقع إلى النظرية الذي يقتضيه المنطق الحديث، الذي هو المنطق الاستقرائي، إذ يكون الانتقال فيه من الجزئي إلى الكلي بمعنى أن المعارف تنكشف لدينا تدريجيًا وأننا نكتشف الجديد بشكل مستمر.
المنطق التقليدي كما هو معروف يهتم بصورة الفكر لا بمادته، بينما المنطق المعاصر نجده يهتم بمادة الفكر لا بصورته، وبصورة أوضح أنه يهتم بالواقع ومعطيات الواقع، وما ينتج عنه أكثر مما يهتم بالرؤية التأملية النظرية التي تنطوي على شكل من أشكال المثالية المفرطة، التي تدفع باتجاه بناء رؤى نظرية قصدها تغيير الواقع ولكنها مفارقة له ومنعزلة عنه، الأمر الذي جعل هذه الأفكار ذات نزعة يوتوبية عالية، وفيها شكل من أشكال النخبوية الثقافية، التي جعلت المفكر وكأنه يعيش خارج مجتمعه وخارج واقعه، وكأنه يغرد خارج السرب. الأمر الذي دفع ايضاً إلى أن تكون الثقافة العربية والاسلامية ـ بمعظمها ـ تبدو وكأنها ثقافة تنطوي على نزوع انفرادي ينم عن سيادة نزعة ثقافية، وحتى دينية متماهية مع نزوع السلطة الذي يدفع باتجاه تغييب المجتمع وعدم الاعتراف بجدوى مشاركته في بناء رؤى تجديدية، مما دفع إلى عدم شيوع الثقافة الفلسفية في المجتمع العربي والإسلامي، واقتصارها على نخب ثقافيَّة معينة وإلى حد كبير ارتباطها بدواوين السلطة، وكأنها شكل من أشكال الترف الفكري.
تتضامن معها سيادة الخطاب الجدلي (الكلامي)، الذي ينشغل أصحابه في البيان والجدل ونزعة المحاججة القائمة على السفسطة، الذي لا يكون هم صاحبه البحث عن الحقيقة، بل تثبيت الحقيقة المسلم بها سلفًا، وكونه جدليًا فليس غايته أيضاً إدراك الحقيقة بقدر سعيه للاقناع المبني على الرغبة في غلبة الخصم واسقاط حجته، معتمدًا على قدرته في الدراية بعلوم اللغة والخطاب.
أما بيانيًا، فلأنه مشغول بجماليات اللغة وبلاغتها، الأمر الذي جعل الإنسان العربي يبحث عن السجع والجرس الموسيقي والاستعارة والكناية في الخطاب أكثر من بحثه عن الأفكار والمعاني المراد إيصالها إلى المتلقي، حتى قيل (العرب ظاهرة صوتية)، وإن العربي يهتم بالاسم دون المسمى. حتى صارت الخطابة بطابعها الوعظي تغطي الواقع بسيل من
الخطب.
بقيَ العقل مقيدا بشروط القياس الفقهي، الأمر الذي دفع باتجاه غياب النزعة النقدية، وتوقف فاعلية العقل أمام النص، إلا بما يخدم النص نفسه بما لا يمس بكل شكل متصور من أشكال القدسية، الأمر الذي دعا جمال الدين الافغاني إلى نقد مثل هكذا توجه والدعوة إلى فتح باب الاجتهاد وعدم التوقف على ما قاله الفقهاء الأربعة، بقوله، "نحن رجال وهم رجال"، والاستفادة من النص القرآني الذي يدفع باتجاه فاعلية العقل بقوله تعالى (لا يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم)، والراسخون في العلم من الممكن أن يُوجدوا في كل زمان وهؤلاء هم الذين يجعلون من النص المقدس ذا طبيعة ديناميكية ليصلح لكل زمان ومكان. إلا أننا نجد أن الإسلامويين من الذين تمكنوا من الوصول للسلطة والجماعات المتطرفة قد جعلوا من فهمهم للدين إسلاما آخر وصاروا يطرحون خطاباتهم (ليست بوصفها اجتهادات، وإنما الجزم في أنها (أي أطروحاتهم) هي الإسلام. الأمر الذي ساعد على اتساع مساحة المقدس وهيمنته، فبدل من أن يحدد المقدس الديني في الذات الإلهية وكتبه ورسله، صرنا نعاني من شمول التقديس لأشخاص وكتب وحتى أمكنة طالت حتى وجمادات ما أنزل الله بها من سلطان. وكأن للتقاليد اليد الطولى في غرس فكرة ما ومنحها قدسية قد لا تكون متضمنة فيها في أصوله أو حتى في طبيعة تكوينها، وما على الأجيال المتعاقبة سوى تثبيت قدسية هذه الفكرة من دون تمحيص أو نقد، وهنا تتحول من طبيعتها العادية الدنيوية إلى طبيعة متعالية على نحو التقديس والتبجيل، بل وتُرفع في كثير من الأحيان إلى مرتبة العقيدة الثابتة، التي يعد بحثها تدنيساً لقداستها. فحلت العبودية محل التحرر الذي رامه النبي محمد بدينه الجديد، وصرنا نصنع أصناماً جديدة ليست من حجر بل بشر منا وضعناهم بديلا عن الأصنام التي هدمها النبي محمد، وبدل من أن تكون "الجماهير أقوى من الطغاة" كما قال السيد محمد باقر الصدر صارت "الجماهير هي التي تصنع
الطغاة".
فتجد السلفي يوظفه وفقاً لرؤيته التراثية وفق نزعة "جدلية" مغالطة "مسفسطة"، ولا يختلف العلماني في توظيفه وفقاً لتصوراته العصرانية والحداثية التي تنظر للحاضر وتسعى لبناء مستقبل شبيه بمستقبل الأمم الأوربية المتقدمة، التي صنعت حداثتها بتفكيك الماضي أو بنقده أوبالخلاص من سطوته.